اندكس ن فتح الباري

الرابط

 https://drive.google.com/file/d/1oQ6F4ip_x4FPYXEL9by5sq_at0QyoUMM/view?usp=sharing

اندكس / جاهز للالصاق بأي موفع

الاثنين، 26 سبتمبر 2022

ج1.وج2. كتاب : توجيه النظر إلى أصول الأثر طاهر الجزائري الدمشقي

 

 

ج1.وج2. كتاب : توجيه النظر إلى أصول الأثر طاهر الجزائري الدمشقي
--
بسم الله الرحمن الرحيم 

 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد فهذه فصول جليلة المقدار ينتفع بها المطالع في كتب الحديث وكتب السير والأخبار وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول الحديث
الفصل الأول عنوان
في بيان معنى الحديث الحديث أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله ويدخل في أفعاله تقريره وهو عدم إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادا للشرع وأما ما يتعلق به عليه الصلاة و السلام من الأحوال فإن كانت اختيارية فهي داخلة في الأفعال وإن كانت غير اختيارية كالحلية لم تدخل فيه إذ لا يتعلق بها حكم يتعلق بنا وهذا التعريف هو المشهور عند علماء أصول الفقه وهو الموافق لفنهم
وذهب بعض العلماء إلى إدخال كل ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة و السلام في الحديث فقال في تعريفه علم الحديث أقوال النبي عليه الصلاة و السلام وأفعاله وأحواله وهذا التعريف هو المشهور عند علماء الحديث وهو الموافق لفنهم فيدخل في ذلك أكثر ما يذكر في كتب السيرة كوقت ميلاده عليه الصلاة و السلام ومكانه ونحو ذلك

وقد رأيت أن أذكر هنا فائدة تنفع المطالع في كثير من المواضع وهي أن مثل هذا يعد من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات وهو ليس من قبيل الاختلاف في الحقيقة كما يتوهمه الذين لا يمعنون النظر فإنهم كلما رأوا اختلافا في العبارة عن شيء ما سواء كان في تعريف أو تقسيم أو غير ذلك حكموا بأن هناك اختلافا في الحقيقة وإن لم تكن تلك العبارات مختلفة في المآل
وقد نشأ عن ذلك أغلاط لا تحصى سرى كثير منها إلى أناس من العلماء الأعلام فذكروا الاختلاف في مواضع ليس فيها اختلاف اعتمادا على من سبقهم إلى نقله ولم يخطر في بالهم أن الذين عولوا عليهم قد نقلوا الخلاف بناء على فهمهم ولم ينتبهوا إلى وهمهم وكثيرا ما انتبهوا إلى ذلك بعد حين فنبهوا عليه وذلك عند وقوفهم على العبارات التي بنى الاختلاف عليها الناقل الأول وقد حمل هذا الأمر كثرا منهم إلى فرط الحذر حين النقل
وقد أشار إلى نحو ما ذكرنا الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في رسالته في قواعد التفسير فقال الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان
أحدهما أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل عل معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى كتفسير بعضهم الصراط المستقيم بالقرآن أي اتباعه وتفسير بعضهم له بالإسلام فالقولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن لكن كل منهما نبه على وصف غير وصف الآخر كما أن لفظ الصراط المستقيم يشعر بوصف ثالث

وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال هو طريق العبودية وقول من قال هو طاعة الله ورسوله وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ولكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها
الثاني أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثاله ما نقل في قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ) الآية فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون
ثم إن كلا منهم يذكر في هذا نوعا من أنواع الطاعات كقول القائل السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار أو يقول السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط والظالم مانع الزكاة
ثم قال ومن أقوال المأخوذة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة كما إذا فسر بعضهم ( تبسل ) بتحبس وبعضهم بترتهن لأن كلا منهما قريب من الآخر ا هـ
وقال بعض العلماء في كتاب ألفة في أصول التفسير قد يحكى عن التابعين عبارات مختلفة الألفاظ فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه

أقوالا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من معاني الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بثمرته ومقصوده والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا ا هـ
ولنرجع إلى المقصود فنقول قد عرفت أن الحديث ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام فيختص بالمرفوع عند الإطلاق ولا يراد به الموقوف إلا بقرينه
وأما الخبر فإنه أعم لأنه يطلق على المرفوع والموقوف فيشمل ما أضيف إلى الصحابة والتابعين وعليه يسمى كل حديث خبرا ولا يسمى كل خبر حديثا
وقد أطلق بعض العلماء الحديث على المرفوع والموقوف فيكون مرادفا للخبر وقد خص بعضهم الحديث بما جاء عن النبي عليه الصلاة و السلام والخبر بما جاء عن غيره فيكون مباينا للخبر
وأما الأثر فإنه مرادف للخبر فيطلق على المرفوع والموقوف وفقهاء خراسان يسمون الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر
وأما السنة فتطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام من قول أو فعل أو تقرير فهي مرادفة للحديث عند علماء الأصول وهي أعم منه عند من خص الحديث بما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام من قول فقط وعلى ذلك يحمل قولهم اختلف في جواز رواية الحديث بالمعنى فينبغي للطالب أن يعرف اختلاف العرف هنا ليأمن الزلل
وبما ذكرنا من أن بعض المحدثين قد يطلق الحديث على المرفوع والموقوف يزول الإشكال الذي يعرض لكثير من الناس عندما يحكى لهم أن فلانا كان يحفظ سبع مئة ألف حديث صحيح فإنهم مع استبعادهم ذلك يقولون أين تلك الأحاديث ولم لم تصل إلينا وهلا نقل الحفاظ ولو مقدار عشرها وكيف ساغ لهم أن يهملوا أكثر ما ثبت عنه عليه الصلاة و السلام مع أن ما اشتهروا به من فرط العناية

بالحديث يقتضي أن لا يتركوا مع الإمكان شيئا منه
ولنذكر لك شيئا مما روي في قدر حفظ الحفاظ نقل عن الأمام أحمد أنه صح من الحديث سبع مائة ألف وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ سبع مئة ألف قال البيهقي أراد ما صح من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين
وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ كان أبو زرعة يحفظ سبع مئة ألف حديث وكان يحفظ مئة وأربعين ألفا في التفسير
ونقل عن البخاري أنه قال أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح
ونقل عن مسلم أنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مئة ألف حديث مسموع
ومما يرفع استغرابك لما نقل عن أبي زرعة من أنه كان يحفظ مئة وأربعين ألف حديث في التفسير أن ( النعيم ) في قوله تعالى ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قد ذكر المفسرون فيه عشرة أقوال كل قول منها يسمى حديثا في عرف من جعله بالمعنى الأعم وأن ( الماعون ) في قوله تعالى ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) قد ذكروا فيه ستة أقوال كل قول منها ما عدا السادس يعد حديثا كذلك

قال العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في تفسيره المسمى بـ زاد المسير في تفسير سورة التكاثر وللمفسرين في المراد بالنعيم عشرة أقوال
أحدها أنه الأمن والصحة رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم وتارة يأتي موقوفا عليه وبه قال مجاهد والشعبي
والثاني أنه الماء البارد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثالث أنه خبز البر والماء العذب قاله أبو أمامة
والرابع أنه ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبد الله
والخامس أنه صحة الأبدان والأسماع والأبصار قاله ابن عباس وقال قتادة هو العافية
والسادس أنه الغداء والعشاء قاله الحسن
والسابع الصحة والفراغ قاله عكرمة
والثامن كل شيء من لذة الدنيا قاله مجاهد
والتاسع أنه إنعام الله على الخلق بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم قاله القرظي
والعاشر أنه صنوف النعم قاله مقاتل
والصحيح أنه عام في كل نعيم وعام في جميع الخلق فالكافر يسأل توبيخا إذ لم يشكر المنعم ولم يوحده والمؤمن يسأل عن شكر النعم

وقال في تفسير سورة الدين وفي ( الماعون ) ستة أقوال
أحدها أنه الإبرة والماء والنار والفأس وما يكون في البيت من هذا النحو رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية وروى عنه أبو صالح أنه قال الماعون المعروف كله حتى ذكر القدر والقصعة والفأس وقال عكرمة ليس الويل لمن منع هذا وإنما الويل لمن جمعهن فراءى في صلاته وسها عنها ومنع هذا قال الزجاج والماعون في الجاهلية كل ما كان فيه منفعة كالفأس والقدر والدلو والقداحة ونحو ذلك وفي الإسلام أيضا
والثاني أنه الزكاة قاله علي وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة
والثالث أنه الطاعة قاله ابن عباس في رواية
والرابع المال قاله سعيد بن المسيب والزهري
والخامس المعروف قاله محمد بن كعب
والسادس الماء ذكره الفراء عن بعض العرب ا هـ
هذا وقد اعترض بعض الناس على المؤلفين الذين ينقلون في المسألة جميع الأقوال التي وقفوا عليها كما فعله بعض علماء التفسير وعلماء الأصول ومن نحا نحوهم وذلك لجهلهم باختلاف أغراض المصنفين ومقاصدهم ولتوهمهم أن طريق التأليف يجب أن لا يخالف ما تخيلوه في أذهانهم
وقد أحببنا أن نختم هذا الفصل بالجواب عن اعتراضهم فنقول
إن تلك الأقوال إن كانت مختلفة في المآل عرف الناظر الخلاف في المسألة

وفي معرفة الخلاف فائدة لا تنكر وكثيرا ما يستنبط من أمعن النظر فيها قولا آخر يوافق كل واحد من الأقوال المذكورة من بعض الوجوه وكثيرا ما يكون أقوى من كل واحد منها وأقوم وقد وقع ذلك في مسائل لا تحصى في علوم شتى
وإن كانت تلك الأقوال غير مختلفة في المآل كان من توارد العبارات المختلفة على الشيء الواحد وفي ذلك من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام فيزول ذلك بغيرها وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين فكثيرا ما تعرض عبارتان متحدتا المعنى لاثنين تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما والأخرى أقرب إلى فهم الآخر وهذا مشاهد بالعيان لا يحتاج إلى برهان ومن ثم ترى بعض المؤلفين قد يأتون بعبارة ثم إذا بدا لهم أن بعض المطالعين ربما لم يفهمها أتوا بعبارة أخرى وأشاروا إلى ذلك
وإذا عرفت هذا تبين لك أن مثل هؤلاء المعترضين مثل غر جال في الأسواق فصار كلما رأى شيئا لم يشعر بفائدته أو لم تدع حاجته إليه عد وجوده عبثا وسفه رأي عماله والراغبين فيه وكان الأجدر به أن يقبل على ما يعنيه ويعرض عما لا يعنيه
وكأن كثيرا منهم يظن أن الاعتراض على أي وجه كان يدل على العلم والنباهة مع انه كثيرا ما يدل على الجهل والبلاهة ولا نريد بما ذكرنا سد باب الاعتراض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الذين بتعرضون لذلك ببادىء الرأي لا غير وإلا فالاعتراض إذا كان معقولا لا ينكر بل قد يحمد عليه صاحبه ويشكر


الفصل الثاني
في سبب جمع الحديث في الصحف وما يناسب ذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يكتبون عن النبي صلى الله عليه و سلم غير القرآن أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني فلا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
قال كثير من العلماء نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن وهذا لا ينافي جواز كتابته إذا أمن اللبس وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة و السلام في مرضه الذي توفي فيه ايتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده وقوله اكتبوا لأبي شاه وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث
ولما توفي النبي عليه الصلاة و السلام بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده في موضع واحد وسموا ذلك المصحف واقتصروا على ذلك ولم يتجاوزوه إلى كتابة الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن لكن صرفوا هممهم إلى نشره بطريق الرواية إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه عليه الصلاة و السلام إن بقيت في أذهانهم أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم فإن المقصود بالحديث هو المعنى ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن فإن لألفاظه مدخلا في الإعجاز فلا يجوز إبدال لفظ منه بلفظ آخر ولو كان مرادفا له خشية النسيان مع طول الزمان فوجب أن يقيد بالكتابة ولا يكتفى فيه بالحفظ

قال الإمام الخطابي في كتابه في إعجاز القرآن إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى قائم به ورباط لهما ناظم وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه
وأما معانيه فكل ذي لب يشهد لها بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظم في التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في ذاته وصفاته ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته ومن تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه
ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الآتية من الزمان جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله ا هـ

وقال إمام المتكلمين على طريقة السلف تقي الدين أحمد بن تيمية في الرسالة الملقبة بالتسعينية وهي رسالة تبلغ مجلدا كبيرا ألفها في الرد على المتكلمين على طريقة الخلف في مسألة الكلام في الوجه الثالث والستين ويجب أن يعلم أصلان عظيمان
أحدهما أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا أعني خاصة في اللفظ وخاصة فيما دل عليه من المعنى ولهذا لو فسر القرآن أو ترجم فالتفسير والترجمة قد يأتي بأصل المعنى أو بما يقرب منه وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية لا مع القدرة عليها ولا مع العجز عنها لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بألفاظ أخرى
الأصل الثاني أنه إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا ومعناه أشد مباينة لسائر معاني الكلام من مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه وقوله تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) يتناول ذلك كله انتهى
هذا ولم يزل أمر الحديث في عصر الصحابة وأول عصر التابعين على ما ذكرنا ولما أفضت الخلافة إلى من قام بحقها عمر بن عبد العزيز أمر بكتابة

الحديث وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين ووفاته لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومئة وعاش أربعين سنة وأشهرا وكان موته بالسم فإن بني أمية ظهر لهم أنه إن امتدت أيامه أخرج الأمر من أيديهم ولم يعهد به إلا لمن يصلح له فعاجلوه
قال البخاري في صحيحه في كتاب العلم وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
وأبو بكر هذا كان نائب عمر بن عبد العزيز في الإمرة والقضاء على المدينة روى عن السائب بن يزيد وعباد بن تميم وعمرو بن سليم الزرقي وروى عن خالته عمرة وعن خالدة ابنة أنس ولها صحبة
قال مالك لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم وكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة والقاسم فكتبه له وأخذ عنه معمر والأوزاعي والليث ومالك وابن أبي ذئب وابن إسحاق وغيرهم وكانت وفاته فيما قاله الواقدي وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومئة
وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام وعالم أهل الحجاز والشام
أخذ عن ابن عمر وسهل بن سعد وأنس بن مالك ومحمود بن الربيع وسعيد بن المسيب وأبي أمامة بن سهل وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين

وأخذ عنه معمر والأوزاعي والليث ومالك وابن أبي ذئب وغيرهم ولد سنة خمسين وتوفي سنة أربع وعشرين ومئة
قال عبد الرزاق سمعت معمرا يقول كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهري
ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشرت العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين
وأول من جمع ذلك ابن جريح بمكة وابن إسحاق أو مالك بالمدينة والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة وسفيان الثوري بالكوفة والأوزاعي بالشام وهشيم بواسط ومعمر باليمن وجرير بن عبد الحميد بالري وابن المبارك بخراسان وكان هؤلاء في عصر واحد ولا يدري أيهم سبق قال الحافظ ابن حجر إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في الأبواب وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي فإنه روي عنه أنه قال هذا باب من الطلاق جسيم وساق فيه أحاديث ا هـ
وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وذلك على رأس المئتين فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا وصنف مسدد البصري مسندا وصنف أسد بن موسى مسندا وصنف نعيم بن حماد الخزاعي مسندا

ثم اقتفى الحفاظ آثارهم فصنف الإمام أحمد مسندا وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم
ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخاري وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته
وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه فإن لم يتيسر له ذلك بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده
واقتفى أثر الإمام البخاري في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه فألف كتابه المشهور
ولقب هذان الكتابان بالصحيحين فعظم انتفاع الناس بهما ورجعوا عند الاضطراب إليهما وألفت بعدهما كتب لا تحصى فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها
هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شيء غير الكتاب العزيز وليس الأمر كذلك فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض
وذكر البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمرو كان يكتب الحديث فإنه روى عن أبي هريرة أنه قال ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه

وسلم أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب
وذكر مسلم في صحيحه كتابا ألف في عهد ابن عباس في قضاء علي فقال حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني فقال ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه قال فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل
وحدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس قال أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدر وأشار سفيان بن عيينة بذراعه
حدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن أبي إسحاق قال لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي عليه السلام قال رجل من أصحاب علي قاتلهم الله أي علم أفسدوا
وحدثنا علي بن خشرم أخبرنا أبو بكر يعني ابن عياش قال سمعت المغيرة يقول لم يكن يصدق على علي عليه السلام في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود ا هـ

قوله ويخفي عني وأخفي عنه هما بالخاء المعجمة وقد ظن بعضهم أنهما بالحاء من الإحفاء بمعنى الإلحاح أو الاستقصاء وجعل عن بمعنى على ولا يخفى ما في ذلك من التعسف يريد أنه يكتم عنه أشياء مما يخشى إذا ظهرت أن يحصل منها قيل وقال من النواصب والخوارج وناهيك بشوكتهما في ذلك العصر وبفرط ميلهما لمشاقة الإمام المرتضى فاختار عدم كتابة ذلك دفا للمحذور مع أن هذا النوع ربما كان مما لا يلزم السائل معرفته وإن كان مما يضطر إليه فإنه يمكنه أن يحصل عليه بطريق المشافهة
وأراد بقوله والله ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضل أنه لم يقض به لأنه لم يضل والظاهر أن الكتاب الذي محاه إلا قدر ذراع منه كان على هيئة درج مستطيل
وابن أبي مليكة المذكور هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي المكي قاضي مكة في زمن ابن الزبير وكان إماما فقيها فصيحا مفوها اتفقوا على توثيقه روى عنه ابن جريح ونافع بن عمر الجمحي والليث بن سعد وغيرهم روى عنه أيوب قال بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف فكنت أسأل ابن عباس وكانت وفاته سنه سبع عشرة ومئة ووفاة ابن عباس سنة ثمان وستين
والمغيرة المذكور هو الفقيه الحافظ أبو هشام بن مقسم الضبي الكوفي ولد أعمى وكان عجيبا في الذكاء قال الذهبي في طبقات الحفاظ ضعف أحمد روايته عن إبراهيم فقط وكان عثمانيا ويحمل على علي بعض الحمل وقال في الميزان إمام ثقة لكن لين أحمد بن حنبل روايته عن إبراهيم النخعي فقط مع أنها في الصحيحين وروى عن أبي وائل والشعبي ومجاهد

وقال محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست في أثناء وصف خزانة للكتب رآها في مدينة الحديثة لم ير لأحد مثلها كثرة ورأيت فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي عليه السلام وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه و سلم
ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والفراء والكسائي
ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم
ورأيت مما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته وهي أربع أوراق أحسبها من ورق الصين ترجمتها هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي وتحته هذا خط النضر بن شميل ا هـ
تنبيه قد نقلنا آنفا ما ذكره العلماء الأعلام في طريق الجمع بين الحديث الذي ورد في منع كتابة ما سوى القرآن والأحاديث التي وردت في إجازة ذلك وقد سلك ابن قتيبة فيه طريقا آخر فقال في تأويل مختلف الحديث وهو كتاب ألفه في

الرد على المتكلمين الذين أولعوا بثلب أهل الحديث ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث
قالوا أحاديث متناقضة قالوا رويتم عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء ين يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني شيئا فليمحه
ثم رويتم عن ابن جريح عن عطاء عن عبد الله بن عمرو قال قلت يا رسول الله أقيد العلم قال نعم قيل وما تقييده قال كتابته
ورويتم عن حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قلت في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك إلا الحق
قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إن في هذا معنيين
أحدهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة كأنه نهى في أول الأمر أن يكتب قوله ثم رأى بعد لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد
والمعنى الآخر أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له
قال أبو محمد حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا وهب بن جرير عن أبيه عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عمرو بن تغلب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أشراط الساعة أن يفيض المال ويظهر القلم ويفشو التجار

قال عمرو إن كنا لنلتمس في الحواء العظيم الكاتب فما يوجد ويبيع الرجل البيع فيقول حتى أستأمر تاجر بني فلان

انتهى كلامه وبمثله يعلم في مثل هذا المقام مقامه


الفصل الثالث في تثبت السلف في أمر الحديث خشية أن يدخل فيه ما ليس منه
قد كان للصحابة رضي الله عنهم عناية شديدة في معرفة الحديث وفي نقله لمن لم يبلغه فقد ذكر البخاري في صحيحه في كتاب العلم أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك
ولشدة عنايتهم به أقلوا من الرواية وأنكروا على من أكثر منها إذ الإكثار مظنة للخطأ والخطأ في الحديث عظيم الخطر روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قال قلت للزبير إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يحدث فلان وفلان فقال أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار وروى عن أنس أنه قال إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار

وروى عن أبي هريرة أنه قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى - إلى قوله - الرحيم ) إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه و سلم لشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون ا هـ
وإنما اشتد إنكارهم على أبي هريرة لأنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من ثلاث سنين فإنه أسلم عام خيبر وأتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من السابقين الأولين ذكر بقي بن مخلد أنه روى خمسة الآف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثا وله في البخاري أربع مئة وستة وأربعون حديثا وعمر بعده عليه السلام نحوا من خمسين سنة وكانت وفاته سنة تسع وخمسين
قال ابن قتيبة في جوابه عن طعن النظام في أبي هريرة بإنكار بعض الصحابة عليه كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها فيدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي
وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه و سلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة

وقال علي كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر وذكر الحديث
أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك كراهية التحريف أو الزيادة في الرواية أو النقصان لأنهم سمعوه عليه السلام يقول من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار وهكذا روي عن الزبير أنه رواه وقال أراهم يزيدون فيه متعمدا والله ما سمعته قال متعمدا
وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يومين متتابعين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون
فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم لخدمته وشبع بطنه وكان فقيرا معدما وأنه لم يكن ليشغله عنه غرس الودي ولا الصفق بالأسواق يعرض بأنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا أمسكوا عنه
وكان مع هذا يقول قال صلى الله عليه و سلم كذا وأنما سمعه من

الثقة عنده فحكاه وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله ا هـ
وقال الحافظ الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمة أبي بكر الصديق كان أول من احتاط في قبول الأخبار فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال ما أجد لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لك شيئا ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس فقال له هل معك أحد فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه
ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه
فهذا المرسل يدلك على أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنن فلما أخبره الثقة لم يكتف حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج
ثم قال فحق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل

(
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد )
قال الله عز و جل ( فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي أو لمذهب فبالله لا تتعب
وقال في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب روى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال لم رجعت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع قال لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا ما شأنك فأخبرنا وقال فهل سمع أحد منكم فقلنا نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجل منهم حتى أتى عمر فأخبره
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد وفي ذلك حث على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد
وقد كان عمر من وجله من أن يخطئ الصاحب في حديث رسول الله يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن

وقد روى شعبة وغيره عن بيان عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا وقال أتردون لم شيعتكم قالوا نعم تكرمة لنا قال ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال نهانا عمر
وروى الدراوردي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقلت له أكنت تحدث في زمان عمر هكذا قال لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته
وقال في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روى معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكون أتحبون أن يكذب الله ورسوله فقد زجر الإمام علي عن رواية المنكر وحث على التحديث بالمشهور وهذا أصل كبير في الكف عن بث الأشياء الواهية والمنكرة من الأحاديث في الفضائل والعقائد والرقائق ولا سبيل إلى معرفة هذا من هذا إلا بالإمعان في معرفة الرجال
وأخرج البخاري هذا الأثر في صحيحه فقال باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا وقال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك
قال شراح هذا الأثر إنما قال الإمام ذلك لأن الإنسان إذا سمع ما لا يفهمه أو ما لا يتصور إمكانه اعتقد استحالته جهلا فلا يصدق بوجوده فإذا

أسند إلى الله تعالى أو رسوله لزم ذلك المحذور ويكذب بفتح الذال على صيغة المجهول وهذا الإسناد من عوالي المؤلف لأنه يلتحق بالثلاثيات من جهة أن الراوي الثالث وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة من الصحابة وكان آخرهم موتا وأخر المؤلف هنا السند عن المتن ليميز بين طريقة إسناد الحديث وإسناد الأثر أو لضعف الإسناد بسبب ابن خربوذ أو للتفنن وبيان الجواز ومن ثم وقع في بعض النسخ مقدما وقد سقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني ا هـ
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة
تنبيه وقد فهم من هذين الأثرين أن المحدث يجب عليه أن يراعي حال من يحدثهم فإذا كان فيما ثبت عنده ما لا تصل إليه أفهامهم وجب عليه ترك تحديثهم به دفعا للضرر فليس كل حديث يجب نشره لجميع الناس كما يتوهمه الأغمار فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثتة قطع هذا البلعوم
قالوا أراد بالوعاء الأول الأحاديث التي لم ير ضررا في بثها فبثها وأراد بالوعاء الثاني الأحاديث المتعلقة ببيان أمراء الجور وذمهم فقد روي عنه أنه قال لو شئت أن أسميهم بأسمائهم وكان لا يصرح بذلك خوفا على نفسه منهم
وقال بعض الصوفية أراد به الأحاديث المتعلقة بالأسرار الربانية التي لا يدركها إلا أرباب القلوب
وفي كون المراد به هذا فيه نظر لأنه لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه من جميع الناس بل كان أظهره لبعض الخواص منهم

على أن الذي كتمه أبو هريرة لو كان مما يتعلق بالدين لكان غايته أن يكون بمنزلة المتشابه والمتشابه موجود في الكتاب العزيز وهو يتلى على الناس كلهم في كل حين وقد روى أبو هريرة كثيرا من الأحاديث المتشابهة
أخرج مسلم عنه في باب صلاة الليل أنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له
وأخرج عنه في باب رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة أنه قال إن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك
يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه الحديث
وأخرج عنه في كتاب الجنة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلق الله عز و جل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقة قال اذهب

فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن
وروى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي ا هـ
هذا ومن الغريب ما يروي عن ابن القاسم أنه قال سألت مالكا عمن يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد
قال تقي الدين في التسعينية هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره

وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وقد كان مالك يترك أحاديث كثيرة لكونها لا يؤخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب وغاية ما يعتذر له أن يقال كره أن يتحدث بذلك حديثا يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك وأما إن قيل إنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود
ولنرجع إلى المقصود وهو بيان تروي جمهور الصحابة في أمر الرواية فنقول
قال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن عباد وسعيد بن عمرو الأشعثي جميعا عن ابن عيينة قال سعيد أخبرنا سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس قال جاء هذا إلى ابن عباس يعني بشير بن كعب فجعل يحدثه فقال له ابن عباس عد لحديث كذا وكذا فعاد له ثم حدثه فقال له عد لحديث كذا وكذا فعاد له
فقال له ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا فقال له ابن عباس إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه

حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات
وحدثني أبو أيوب سليمان بن عبيد الله الغيلاني حدثنا أبو عامر يعني العقدي حدثنا رباح عن قيس بن سعد عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه
فقال يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تسمع فقال ابن عباس إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ا هـ
وبشير المذكور مخضرم يروي عن أبي ذر وأبي الدرداء وقد وثقه النسائي وابن سعد وهو مصغر بشر
وأخرج ابن ماجة في سننه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قلنا لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد
وأخرج عن السائب بن يزيد أنه قال صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم بحديث واحد

وروى عن الشعبي أنه قال جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا
وروى عن محمد بن سيرين أنه قال كان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله ففرغ منه قال أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد ثبت توقف كثير من الصحابة في قبول كثير من الأخبار وقد استدل بذلك من يقول بعدم الاعتماد عليها في أمر الدين
وقد رد عليهم الجمهور بأن الرد إنما كان لأسباب عارضة وهو لا يقتضي رد جميع أخبار الآحاد كما ذهب إليه أولئك على أن الأخبار التي استندوا إليها إنما تدل على مذهب من يشترط في قبول الخبر التعدد في رواته ولا تدل على مذهب من يشترط التواتر فيه فقد ذكر الإمام الغزالي في المستصفى ثم قال
ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور
أحدها أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
ثانيها أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث أنه قال لولا لو علم صدقه لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد والأقوى ما ذكرناه من قبل

نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فليزمه اشتراطه ثلاثة ويلمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كن هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكد أو خلافة فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يستظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقفا لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان معروفا بأنه كلفب أقاربه فتوقفا تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى يثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم

وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار ا هـ
هذا وقد عقد الحافظ ابن حزم فصلا في كتاب الإحكام للرد على من ذم الإكثار من الرواية وقد أحببنا إيراده على طريق التلخيص تقريبا للمرام وتخليصا للمطالع من كثير من العبارات الشديدة الإيلام قال فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن قال علي وذهب قوم إلى ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر وذكروا أنه لم يلتفت إلى رواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا وأنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت
وتوعد أبا موسى بالضرب إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان
وأن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الزكاة فقال أغنها عنا فرجع إلى أبيه فقال ضع الصحيفة حيث وجحدتها

وأن ابن عباس لم يلتفت إلى رواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار ولا إلى رواية علي في النهي عن المتعة ولا إلى رواية أبي سعيد في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد
وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال إن لأبي هيرة زرعا وذكروا نحو هذا عن نفر من التابعين
قال علي وقولهم هذا داحض بالبرهان الظاهر وهو أن يقال لمن ذم الإكثار من الرواية أخبرنا أخير هي أم شر ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن قال هي خير فالإكثار من الخير خير وإن قال هي شر فالقليل من الشر شر وهم قد أخذوا بنصيب منه
أما نحن فنقول إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله ثم نقول لهم عرفونا حد الإكثار من الرواية المذموم عندكم لنعرف ما تكرهون وحد الإقلال المستحب عندكم فإن حدوا لذلك حدا كانوا قد قالوا بغير برهان وبغير علم وإن لم يحدوا في ذلك حدا كانوا قد وقعوا في أسخف منزلة إذ لا يدرون ما ينكرون
والحق أن الخير كله في التفقه في الآثار والقرآن وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد حض النبي صلى الله عليه و سلم على أن يبلغ عنه وهذا هو التفقه والنذارة التي أمر الله تعالى بها
وليت شعري إذا كان الإكثار من الرواية شرا فأين الخير أفي التقليد الذي لا يلتزمه إلا جاهل أو متجاهل أم في التحكم في دين الله بالآراء التي قد حذر الله تعالى منها وزجر النبي صلى الله عليه و سلم عنها
وقد زعم بعضهم أن مالكا كان يسقط من الموطأ كل سنة وأنه لم يحدث بكثير مما عنده وهذا حال من يريد أن يمدح فيذم ويريد أن يبني فيهدم فإن أرادوا

أن مالكا حدث بالصحيح عنده وترك ما لم يصح فقد أحسن وكذلك كل من حدث بما صح عنده كسفيان وشعبة والأوزاعي وإن أرادوا أنه حدث بالسقيم وترك الصحيح فقد نزهه الله عن ذلك وكذلك إن أرادوا أنه حدث بصحيح وسقيم وترك صحيحا وسقيما فبطل ما أرادوا أن يمدحوه به وكان ذما عظيما لو صح عليه وأعوذ بالله من ذلك
وممايدل على كذب من قال هذا أن الموطأ ألفه مالك بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك وكانت وفاة يحيى في سنة ثلاث وأربعين ومئة ولم يزل الموطأ يرويه عن مالك منذ ألفه طائفة بعد طائفة وأمة بعد أمة
وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة وموطؤه أكمل الموطآت لأن فيه خمس مئة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمس مئة حديث وتسعة وخمسون حديثا
وكان سماع ابن وهب للموطأ منمالك قبل سماع أبي المصعب بدهر وكذلك سماع ابن القاسم ومعن بن عيسى وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمس مئة حديث وثلاثة أحاديث وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل
قال علي وأول من ألف في جمع الحديث حماد بن سلمة ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس ونحن نحمد ذلك من فعلهم ونقول إن لهم ولمن فعل فعلهم أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السن وكثير ما بينوا من الحق وما رفعوا من الإشكال في الدين وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف فمن أعظم أجرا منهم جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان
وأما رد عمر لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته هي وهي من المبايعات المهاجرات الصواحب فهو تنازع بين أولي الأمر وليس قول أحدهما بأولى من

قول الآخر إلا بنص والنص موافق لقولها وهو في رد ذلك مجتهد مأجور مرة ولا تعلق للمستدلين بهذا الخبر فإنهم قد خالفوا الاثنين كليهما
وأما ما ذكروا من نهي عمر عن الإكثار من الحديث فحدثنا محمد بن سعيد حدثنا أحمد بن عون حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الخشني حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن ا لخطاب إلى صرار فانتهى إلى مكان فيه فتوضأ فقال تدرون لم شيعتكم قلنا لحق الصحبة قال إنكم ستأتون قوما تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا شريككم قال قرظة فما حدثت بشيء بعد ولقد سمعت كما سمع أصحابي
فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه بل لا شك في ذلك لأن قرظة مات والمغيرة بن شعبة أمير بالكوفة هذا مذكور في الخبر الثابت المسند أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب فذكر المغيرة عند ذلك خبرا مسندا في النوح ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك والشعبي أقرب إلى الصبا فلا شك أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا

الخبر بل ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قرظة
قال علي ورووا عنه أنه حبس عبد الله بن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما روينا بالسند المذكور إلى بندار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات قال علي هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد
وقد حدث عمر بحديث كثير فإنه روي عنه خمس مئة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه و سلم فهو كثير الرواية وليس في الصحابة أكثر رواية منه إلا بضعة عشر منهم
والذي صح عن عمر أنه تشدد في الحديث وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه وإنما فعل ذلك اجتهادا منه
وأما الرواية عن أبي بكر الصديق فمنقطعة لا تصح ولو صحت لما كان لهم فيها حجة لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر عندهم فالذي يدخل خبر الواحد يدخل خبر الاثنين ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك بنص فيوقف عنده
وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أوردوه والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم رواية في صفة الزكاة استغنى بها عما عند علي بل نقطع عليه بهذا قطعا ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بالمخالفة وقد أعاذه الله من ذلك
وأما ابن عباس فقد روى في المتعة إباحة شهدها وثبت عليها ولم يحقق النظر

وروى في الدرهم بالدرهمين خبرا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه و سلم وليت شعري من جعل قوله أولى من قول من خالفه في ذلك
وأما قول ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا فصدق وليس في هذا رد لروايته
فالواجب الرد المفترض الذي لا يسوغ سواه وهو الرد إلى الله تعالى وإلى الرسول عليه الصلاة و السلام وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله ولا سبيل إلى ذلك إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه وقد حض عليه الصلاة و السلام على تبليغ الحديث عنه فقال في حجة الوداع لجميع من حضر ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث
ثم العجب من إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه فوالله العظيم لا أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها لأنهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد وهذا عجيب جدا أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد وأخذ ما وافقه من ذلك فهذا هوس لأن لخصومهم أن يردوا بهذا نفسه ما أخذوا هم به ويأخذوا ما ردوه هم منه
فإن قال قائل الحديث قد يدخله السهو والغلط قيل له إن كنت ممن يقول بخبر الواحد فاترك كل حديث أخذت به منه فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو والغلط وإن كنت مقلدا فااترك كل من قلدت فإن السهو والغلط يدخلان عليه بالضمان وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين أخذت دينك عنهم وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد فقد أثبتنا بالبرهان وجوب قبوله


الفصل الرابع
في تمييز علماء الحديث ما ثبت منه مما لم يثبت اعلم أن أئمة الحديث لما شرعوا في تدوينه دونوه على الهيئة التي وصل بها إليهم ولم يسقطوا مما وصل إليهم في الأكثر إلا ما يعلم أنه موضوع مختلق فجمعوا ما رووا منه بالأسانيد التي رووه بها ثم بحثوا عن أحوال الرواة بحثا شديدا حتى عرفوا من تقبل روايته ومن ترد ومن يتوقف في قبول روايته
وأتبعوا ذلك بالبحث عن المروي وحال الرواية إذ ليس كل ما يرويه من كان موسوما بالعدالة والضبط يؤخذ به لما أنه قد يعرض له السهو أو النسيان أو الوهم ولهم في معرفة ذلك طرق مذكورة في كتبهم وكتب علماء الأصول وقد تم لهم بذلك ما أرادوا من معرفة درجة كل حديث وصل إليهم على قدر الوسع والإمكان فصار لهم من الأجر الجزيل والذكر الجميل ما هو كفاء لما لقوه في ذلك من فرط العناء
وقد دعاهم النظر في أحوال الرواة والمروي والرواية إلى أن يصطلحوا على أسماء يتداولونها بينهم تسهيلا للبحث كما فعل غيرهم من أرباب الفنون وقد جعل من بعدهم ما اصطلحوا عليه فنا مستقلا سموه بمصطلح أهل الأثر وقد اعتنى العلماء الأعلام به وألفوا فيه مؤلفات كثيرة وهو فن لا يسع طالب علم الأثر جهله
وقد رأيت أن أورد منه فيما يأتي ما ظهر لي عظم جدواه فيما عمدت إليه ولنبدأ بذكر فوائد مهمة تتعلق بذلك


الفائدة الأولى الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى معين غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب المرء على فعله ويعاقب على تركه واصطلح المتكلمون على وضعه لما لا يتصور في العقل عدمه
واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازا بالنسبة إلى غيرهم قال في المفتاح الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية والسبب في انقسامها هذا هو ما عرفت أن اللفظة يمتنع أن تدل على مسمى من غير وضع فمتى رأيتها دالة لم تشك في أن لها وضعا وأن لوضعها صاحبا
فالحقيقة لدلالتها على المعنى تستدعي صاحب وضع قطعا فمتى تعين عندك نسبت الحقيقة إليه فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع ومتى لم يتعين قلت عرفية وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه غير ممتنع في نفس الأمر ا هـ
هذا وقد ذكر المحققون أنه ينبغي لمن تكلم في فن من الفنون أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه مستعملا لها في معانيها المعروفة عند أربابه ومخالف ذلك إما جاهل بمقتضى المقام أو قاصد للإبهام أو الإيهام مثال ذلك فيما نحن فيه أن يقول قائل عن حديث ضعيف إنه حديث حسن فإذا اعترض عليه قال وصفته بالحسن باعتبار المعنى اللغوي لاشتمال هذا الحديث على حكمة بالغة وأما قولهم لا مشاحة في الاصطلاح فهو من قبيل تمحل العذر وقائل ذلك عاذل في صورة عاذر

مثال ذلك في الراوي أن يقال كل راو يكون عدلا ضابطا فهو مقبول الرواية وكل راو يكون غير عدل أو غير ضابط فهو مردود الرواية
ومثال ذلك في المروي أن يقال كل مروي تكون رواته أهل عدالة وضبط فهو مقبول يحتج به وكل مروي لا تكون رواته من أهل العدالة والضبط فهو مردود لا يحتج به
وأما معرفة حال الراوي المعين وحال المروي المعين فإنما تكون بالبحث عنه بعينه على الطريقة التي جرى عليها أئمة الحديث وقد قاموا بذلك أحسن قيام فكفوا من بعدهم المؤونة
وقوله من حيث القبول والرد احترز به عن معرفة حال الراوي والمروي من جهة أخرى ككون الراوي أبيض أو أسود أو كون المروي كلاما ظاهر الدلالة على المعنى أو خفي الدلالة عليه
واعترض عليه من وجهين
أحدهما أن يكون المحمول في مسائل هذا الفن هو قولك مقبول أو مردود فتكون المسائل التي محمولها غير ذلك مثل صحيح أو حسن أو ضعيف ونحوها خارجة عن هذا الفن
وثانيها ان تكون مسائل هذا الفن كلها ترجع إلى قولك الراوي من حيث كذا مقبول ومن حيث كذا مردود والمروي كذلك
وأما ما يقال من أن في هذا الفن مسائل لا تتعلق بالقبول والرد كآداب الشيخ والطالب ونحو ذلك فالخطب فيه سهل فإن أكثر الفنون قد يتعرض فيها لمباحث غير مقصودة بالذات غير أن لها تعلقا بالمقصود فتكون كالتتمة وهو أمر لا ينكر

والأولى تسمية هذا الفن بالاسم الأول فإنه أدل على المقصود وليس فيه شيء من الإبهام أو الإيهام وقد جرى على ذلك الحافظ ابن حجر فسمى رسالته المشهورة فيه بـ نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
الفائدة الثالثة قد قسموا علم الحديث أولا إلى قسمين قسم يتعلق بروايته وقسم يتعلق بدرايته ثم قسموا كل قسم منها إلى أقسام سموا كل واحد منها باسم ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى الكتب المبسوطة في علم الحديث
وقد أحببنا الاقتصار هنا على تعريف العلم المتعلق بروايته والعلم المتعلق بدرايته وقد تعرض لذلك صاحب إرشاد القاصد في أثناء بيان العلوم الشرعية فآثرنا إيراد المقالة بتمامها رعاية لاتصال الكلام ولما فيها من الفوائد التي لا يستغنى عنها في هذا المقام
قال من المعلوم أن إرسال الرسل عليهم السلام إنما هو لطف من الله تعالى بخلقه ورحمة لهم ليتم لهم امر معاشهم ويتبين حال معادهم فتشتمل الشريعة ضرورة على المعتقدات الصحيحة التي يجب التصديق بها والعبادات المقربة إلى الله تعالى مما يجب القيام به والمواظبة عليها والأمر بالفضائل والنهي عن الرذائل مما يجب قبوله
فينتظم من ذلك ثمانية علوم شرعية وهي علم القراءات وعلم رواية الحديث وعلم تفسير الكتاب المنزل على النبي المرسل وعلم دراية الحديث وعلم أصول الدين وعلم أصول الفقة وعلم الجدل وعلم الفقه

وذلك لأن المقصود إما النقل وإما فهم المنقول وإما تقريره وإما تشييده بالأدلة وإما استخراج الأحكام المستنبطة
والنقل إن كان لما أتى به الرسول عن الله تعالى بواسطة الوحي فهو علم القراءات أو لما صدر عن نفسه المؤيدة بالعصمة فعلم رواية الحديث
وفهم المنقول إن كان من كلام الله تعالى فعلم تفسير القرآن أو من كلام الرسول فعلم دراية الحديث
والتقرير إما للآراء فعلم أصول الحدين أو للأفعال فعلم أصول الفقه وما يستعان به على التقرير علم الجدل ومعرفة الأحكام المستنبطة علم الفقه
ولا خفاء لدى ذي حجر بما في هذه العلوم من جملة من المنافع أما في الدنيا فحفظ المهج والأموال وانتظام سائر الأحوال وأما في الأخرى فالنجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم فلنذكرها على التفصيل برسومها ونشير إلى الكتب المفيدة
علم القراءة علم بنقل لغة القرآن وإعرابه الثابت بالسماع المتصل ومن الكتب المشهورة المختصرة فيه التيسير ونظمه الشاطبي برد الله مضجعه في لاميته المشهورة فنسخت سائر كتب الفن لضبطها بالنظم ولابن مالك رحمه الله دالية بديعة في علم القراءات لكنها لم تشتهر ومن الكتب المبسوطة كتاب الروضة وشروح الشاطبية
علم رواية الحديث علم بنقل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله بالسماع المتصل وضبطها وتحريرها

وأضبط الكتب المجمع على صحتها كتاب البخاري وكتاب مسلم وبعدهما بقية كتاب السنن المشهورة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني

والمسندات المشهورة كمسند أحمد وابن أبي شيبة والبزار ونحوها
وزهر الخمائل لابن سيد الناس مستوعب للسير النبوية
ومن الكتب المشتملة على متون الأحاديث المجردة من هذه الكتب الإلمام لابن دقيق العيد فيما يتعلق بالأحكام ورياض الصالحين للنووي فيما يتعلق بالترغيبات والترهيبات
علم التفسير علم يشتمل على معرفة فهم كتاب الله المنزل على نبيه المرسل صلى الله عليه و سلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه

والعلوم الموصلة إلى علم التفسير في اللغة وعلم النحو وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم القراءات
ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول وأحكام الناسخ والمنسوخ وإلى معرفة أخبار أهل الكتاب ويستعان فيه بعلم أصول الفقه وعلم الجدل
ومن الكتب المختصرة فيه زاد المسير لابن الجوزي والوجيز للواحدي ومن المتوسطة تفسير الماتريدي والكشاف للزمخشري وتفسير البغوي وتفسير الكواشي ومن المبسوطة البسيط للواحدي وتفسير القرطبي ومفاتيح الغيب للإمام فخر الدين بن الخطيب
واعلم أن أكثر المفسرين اقتصر على الفن الذي يغلب عليه فالثعلبي تغلب عليه القصص وابن عطية تغلب عليه العربية وابن الفرس أحكام الفقه والزجاج المعاني ونحو ذلك وهاهنا بحث وهو من المعلوم البين أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتاب كل قوم على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سنذكره بعد تقرير قاعدة وهي أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة
أحدها كمال فضيلة المصنف فإنه بجودة ذهنه وحسن عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز يراه كافيا في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن هنا شرح بعض العلماء تصنيفه
وثانيها حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر وكذلك ترتيب إهمال بعض الأقيسة وإغفال علل بعض القضايا

فيحتاج الشارح أن يذكر المقدمات المهملات ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم وينبه على الغنية عن البيان ويرشد إلى أماكن ما لا يتبين بذلك الوضوع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطي علل ما لا يعطي المصنف علله
وثالثها احتمال اللفظ لمعان تاويلية كما هو الغالب على كثير من اللغات أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ المجازية واستعمال الدلالة الالتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه لغير ضرورة إلى غير ذلك مما يقع في الكتب المصنفة فيحتاج الشارح أن ينبه على ذلك
وإذا تقررت هذه القاعدة نقول إن القرآن العظيم إنما أنزل باللسان العربي في زمن أفصح العرب وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر وجودة التأمل والتدبر مع سؤالهم النبي صلى الله عليه و سلم في الأكثر ودعا لحبر الأمة فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
ولم ينقل إلينا عن الصدر الأول تفسير القرآن وتأويله بجملته فنحن نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه زيادة على ما لم يكونوا يحتاجون إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد احتياجا إلى التفسير
ومعلوم أن تفسيره يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته وحسن معانيه وهذا لا يستغني عن قانون عام يعول في تفسيره عليه ويرجع في تأويله إليه ومسبار

تام يميز ذلك وتتضح به المسالك وقد أودعناه كتابنا المسمى نغب الطائر من البحر الزاخر وأردفناه هنالك بالكلام على الحروف الواقعة مفردة في أوائل السور اكتفاء بالمهم عن الإطناب لمن كان صحيح النظر
علم دراية الحديث علم يتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواة وأصناف المرويات واستخراج معانيها ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبديع والأصول ويحتاج إلى تاريخ النقلة والكلام في احتياجه إلى مسبار يميزه كالكلام فيما سبق
والكتب المنسوبة إلى هذا العلم كالتقريب والتيسير للنووي وأصله ككتاب علوم الحديث لابن الصلاح وأصله ككتاب المعرفة للحاكم وكتاب الكفاية للخطيب أبي بكر بن ثابت إنما هي مداخل ليست بكتب كافية في هذا العلم
علم أصول الدين علم يشتمل على بيان الآراء والمعتقدات التي صرح بها صاحب الشرع وإثباتها بالأدلة العقلية ونصرتها وتزييف كل ما خالفها
والمشهور أن أول من تكلم في هذا العلم في الملة الإسلامية عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما من رجال المعتزلة لما وقعت لهم الشبهة في كلام الله تعالى كيف يكون محدثا وهو صفة من صفات القديم وكيف يكون قديما وهو أمر ونهي وخبر وتوراة وإنجيل وقرآن
والشبهة في مسألة القدر هل الأشياء الكائنة كلها بقدر الله ولا قدرة للعبد على الخروج عنها فكيف العقاب وإن كان للعبد قدرة على مخالفة المقدور فيلزم تغير علم الأول بالكائنات إلى غير ذلك من المسائل
وأخذ عنهم أبو الحسن الأشعري وخالفهم في كثير من المسائل
ومن الكتب المختصرة فيه قواعد العقائد للخوجة نصير الدين الطوسي ولباب الأربعين للقاضي جمال الدين بن واصل ومن المتوسطة المحصل للإمام

فخر الدين ولباب الأربعين للأرموي ومن المبسوطة نهاية العقول للإمام فخر الدين والصحائف للسمرقندي
علم أصول الفقه علم يتعرف منه تقرير مطالب الأحكام الشرعية العلمية وطريق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر
ومن الكتب المختصرة فيه القواعد لابن الساعاتي ومختصر ابن الحاجب والمنهاج للبيضاوي ومختصر الروضة لابن قدامة ومن المتوسطة التحصيل للأرموي ومن المبسوطة الأحكام للآمدي والمحصول للإمام فخر الدين بن الخطيب
علم الجدل علم يتعرف منه كيفية تقرير الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة وترتيب النكت الخلافية وهذا متولد من الجدل الذي هو أحد أجزاء المنطق لكنه خصص بالمباحث الدينية وللناس فيه طرق أشبهها طريقة العميدي ومن الكتب المختصرة فيه المغني للأبهري والفصول للنسفي والخلاصة للمراغي
ومن المتوسطة النفائس للعميدي والرسائل للأرموي ومن المبسوطة تهذيب النكت للأرموي
علم الفقه علم بأحكام التكاليف الشرعية العملية كالعبادات والمعاملات العادات ونحوها
الفائدة الرابعة قال عبد الله بن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقال أيضا بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا

عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك فقال عبد الله يا أبا إسحاق عمن هذا قلت له هذا من حديث شهاب بن خراش فقال ثقة عمن قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قلت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه و سلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف
وقال أبو الزناد أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله ذكر ذلك مسلم في صحيحه
والإسناد مصدر من قولك أسندت الحديث إلى قائله إذ رفعته إليه بذكر ناقله
وأما السند فهو في اللغة ما استندت إليه من جدار وغيره وهو في العرف طريق متن الحديث وسمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه
مثال الحديث المسند قول يحيى أحد رواة الموطأ أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يبع بعضكم على بيع بعض فمتن الحديث فيه هو لا يبع بعضكم على بيع بعض
والمتن في أصل اللغة الظهر وما صلب من الأرض وارتفع ثم استعمل في العرف فيما ينتهي إليه السند والإضافة فيه للبيان
وسند الحديث هو ما ذكر قبل المتن ويقال له الطريق لأنه يوصل إلى المقصود هنا وهو الحديث كما يوصل الطريق المحسوس إلى ما يقصده السالك فيه وقد يقال للطريق الوجه تقول هذا حديث لا يعرف إلا من هذا الوجه

وأما الإسناد فقد عرفت أنه مصدر أسند ولذلك لا يثنى ولا يجمع وكثرا ما يراد به السند فيثنى ويجمع تقول هذا حديث له إسنادان وهذا حديث له أسانيد وأما السند فيثنى ولا يجمع تقول هذا حديث له سندان ولا يقال هذا حديث له أسناد بوزن أوتاد وكأنهم استغنوا بجمع الإسناد بمعنى السند عن جمعه وقد ذكر بعض اللغويين أن السند بمعانيه اللغوية لم يجمع أيضا وقد وقع

ذهول لكثير من الأفاضل عن أن الإسناد يأتي بمعنى المصدر ويأتي اسما بمعنى السند فاضطربت عباراتهم حتى أوقعوا المطالع في الحيرة
الفائدة الخامسة اتفق علماء الحديث على أنه لا يؤخذ بالحديث إلا إذا كانت رواته موصوفين بالعدالة والضبط وأن العدالة وحدها غير كافية ولنذكر لك شيئا مما قالوه في ذلك
قال أبو الزناد عبد الله بن ذكوان أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله
وقال عبد الله بن المبارك قلت لسفيان الثوري إن عباد بن كثير من تعرف حاله وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه قال سفيان بلى قال عبد الله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول لا تأخذوا عنه
وقال يحيى بن سعيد القطان لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث قال مسلم يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب
وقال أيوب السختياني إن لي جارا ثم ذكر من فضله ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة

وقال عفان بن مسلم كنا عند إسماعيل بن علية فحدث رجل عن رجل فقلت إن هذا ليس بثبت فقال الرجل اغتبته فقال إسماعيل ما اغتابه ولكنه حكم أنه ليس بثبت
وقال زكريا بن عدي قال لي أبو إسحاق الفزاري اكتب عن بقية ما روى عن المعروفين ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين ولا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين ولا غيرهم
وقال عبد الله بن المبارك بقية صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر ذكر ذلك مسلم في صحيحه
وكان الإمام مالك شديد الانتقاد للرواة وقد نقل عنه في ذلك أقوال أوردها الجلال في إسعاف المبطأ برجال الموطأ ونحن نورد هنا شيئا منها
روى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنه قال ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم
وقال يحيى بن معين كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة إلا عبد الكريم البصري أبا أمية
وقال النسائي ما أحد عندي من التابعين أنبل من مالك بن أنس ولا أجل ولا آمن على الحديث منه ثم يليه شعبة في الحديث ثم يحيى بن سعيد القطان ليس بعد التابعين آمن على الحديث من هؤلاء الثلاثة ولا أقل رواية عن الضعفاء

وقال معن بن عيسى كان مالك يقول لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك لا يؤخذ من سفيه ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به
وقال إسحاق بن محمد الفروي سئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال لا فقيل أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث به فقال لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ ويكون قد طلب وجالس الناس وعرف وعمل ويكون معه ورع
وقال إسماعيل بن أبي أويس سمعت خالي مالكا يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه
وقال أبو سعيد الأعرابي كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه سئل ع غير واحد فقال ثقة روى عنه مالك
وقال شعبة بن الحجاج كان مالك أحد المميزين ولقد سمعته يقول ليس كل الناس يكتب عنهم وإن كان لهم فضل في أنفسهم إنما هي أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تؤخذ إلا من أهلها
وقال ابن كنانة قال مالك من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة


الفائدة السادسة من أصعب الأشياء الوقوف على رسم العدالة فضلا عن حدها وقد خاض العلماء في ذلك كثيرا فقال بعضهم العدالة هي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر وقال بعضهم هي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وعن فعل صغيرة تشعر بالخسة كسرقة باقة بقل وقال بعضهم من كان الأغلب من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته ومن كان الأغلب من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته وروايته
وقال الغزالي في المستصفى العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب
ثم لا خلاف في أنه لا تشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يجترئ على الكذب للأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاح
والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائر في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض ا هـ

وقال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل وهذا القول وأمثاله وإن كان مخالفا لما عليه الجمهور في الظاهر فهو المعول عليه عند الجهابذة في الباطن
وقد انتبه لذلك بعض المتأخرين فقال ما لبابه قد نقل عن كثير من الرواة المأخوذ بروايتهم الإصرار على الصغائر من الغيبة والنميمة وهجران الأخ من غير موجب في الشرع ونحو ذلك من حسد الأقران والبغي عليهم بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يدعو إلى اعتقاد ما لا يدل عليه نقل أو عقل ونسبة من لا يقول به إلى البدعة بل إلى الكفر والظاهر أن المعتبر في عدالة الراوي هو كونه بحيث لا يظن به الاجتراء على الافتراء على النبي صلى الله عليه و سلم
وقال العز بن عبد السلام في القواعد الكبرى فائدة لا ترد شهادة أهل الأهواء لأن الثقة حاصلة بشهادتهم حصولها بشهادة أهل السنة أو أولى فإن من يعتقد أنه يخلد في النار على شهادة الزور أبعد في الشهادة الكاذبة ممن لا يعتقد ذلك فكانت الثقة بشهادته وخبره أكمل من الثقة بمن لا يعتقد ذلك
ومدار قبول الشهادة والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء تحققه في أهل السنة والأصح أنهم لا يكفرون ببدعهم ولذلك تقبل شهادة الحنفي إذا حددناه في شرب النبيذ لأن الثقة بقوله لم تنخرم بشربه لاعتقاده

إباحته وإنما ردت شهادته الخطابية لأنهم يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضا فلا تحصل الثقة بشهادتهم لاحتمال بنائها على ما ذكرناه ا هـ
ولعدم وقوف بعض الناس على ما ذكرنا من أن بعض العلماء يميل إلى أن الثقة بالخبر هي المعول عليه في أمره انقسم الأغمار منهم إلى فريقين ففريق منهم اعترض على كثير من جهابذة المحدثين حيث رووا عمن لا ترتضى سيرتهم ظنا منهم بأن ذلك من قبيل الشهادة لهم بحسن السيرة ونقاء السريرة فنسبوهم إلى الجهل أو التجاهل وما دروا بأن الرواية عنهم إنما تشعر بالوثوق بخبرهم
وهذا أيضا إنما يكون في الكتب التي التزم أربابها أن لا يذكروا فيها سوى ما صح من الأخبار
وفريق منهم صار يذب عن كل من روى عنه إمام من أئمة الحديث وإن كان ممن اتفق علماء الأخبار والآثار على الطعن فيه زعما منهم أنهم لا يروون إلا عمن يكون حسن السيرة نقي السريرة نعم لهم وجه في هذه الدعوى لو صرح ذلك الإمام بأنه لا يروي إلا عمن يكون كذلك
هذا ومما يستغرب ما ذهب إليه بعض من ينحو في الظاهر نحو مذهب الظاهرية فقال في مقالة له في أصول الفقه وإذا ورد الخبر عن قوم مستورين لم يتكلم فيهم بجرح ولا تعديل وجب الأخذ بروايتهم فإن جرح أحد منهم بجرحة تؤثر في صدقه ترك حديثه وإن كانت الجرحة لا تتعلق بنقله وجب الأخذ به إلا شارب الخمر إذا حدث في حال سكره فإن علم أنه حدث في حال صحوه وهو ممن هذه صفته أخذ بقوله والأصل العدالة والجرحة طارئة وإذا ثبت على حد ما قلناه ترك الأخذ بحديث صاحب تلك الجرحة ا هـ
وقد نحا نحو هذا المنحى بعض الشيعة فجوز الأخذ برواية الفاسق إذا كان متحرزا من الكذب وعلل ذلك بأن العدالة المطلوبة في الرواية موجودة فيه
تتمة العدالة مصدر عدل بالضم يقال عدل فلان عدالة وعدولة فهو عدل أي

رضا ومقنع في الشهادة والعدل يطلق على الواحد وغيره يقال هو عدل وهما عدل وهم عدل ويجوز أن يطابق فيقال هما عدلان وهم عدول وقد يطابق في التأنيث فيقال امرأة عدلة وأما العدل الذي هو ضد الجور فهو مصدر قولك عدل في الأمر فهو عادل
وتعديل الشيء تقويمه يقال عدله تعديلا فاعتدل أي قومه فاستقام وكل مثقف معدل وتعديل الشاهد نسبته إلى العدالة وقد فسر العدالة في المصباح فقال قال بعض العلماء العدالة صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة ظاهرا فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرا لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال
ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة قدح وإلا فلا وعرف المروءة فقال هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات يقال مرؤ الإنسان فهو مريء مثل قرب فهو قريب أي ذو مروءة قال الجوهري وقد تشدد فيقال مروة
وقد اعترض بعض العلماء على إدخال المروءة في حد العدالة لأن جلها يرجع إلى مراعاة العادات الجارية بين الناس وهي مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأجناس وقد يدخل في المروءة عرفا ما لا يستحسن في الشرع ولا يقتضيه الطبع على أن المروءة من الأمور التي يعسر معرفة حدها على وجه لا يخفى
قال بعضهم المروءة الإنسانية وقال بعضهم المروءة كمال المرء كما أن الرجولية كمال الرجل وقال بعضهم المروءة هي قوة للنفس تصدر عنها الأفعال

الجميلة المستتبعة للمدح شرعا وعقلا وشرفا ولعل المروءة بهذا المعنى هو الذي أراده من قال
(
مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت على ما تنتحب الفتاة )
(
فقالت كيف لا أبكي وأهلي ... جميعا دون كل الخلق ماتوا )
وقال بعض الفقهاء المروءة صون النفس عن الأدناس ورفعها عما يشين عند الناس وقيل سير المرء بسيره أمثاله في زمانه
فمن ترك المروءة لبس الفقيه القباء والقلنسوة وتررده فيهما بين الناس في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه ومنه المشي في الأسواق مكشوف الرأس حيث لا يعتاد ذلك ولا يليق بمثله ومنه مد الرجلين في مجالس الناس ومنه نقل الرجل المعتبر الماء والأطعمة إلى بيته إذا كان عن بخل وشح وإن كان عن تواضع واقتداء بالسلف لم يقدح ذلك في المروءة وكذلك إذا كان يأكل ما يجد ويأكل حيث يجد زهدا وتنزها عن التكلفات المعتادة ويعرف ذلك بقرائن الأحوال
وإنما لا تقبل شهادة من أخل بالمروءة لأن الإخلال بها يكون إما لخبل في العقل أو لنقصان في الدين أو لقلة حياء وكل ذلك رافع للثقة بقوله
ولم يتعرض كثير من علماء الأصول لذكر المروءة لأن المخل بشيء مما يتعلق بها إن كان إخلاله به مما يرفع الثقة بقوله فقد احترزوا عنه وإن كان مما لا يرفع الثقة بقوله لم يضر قال بعضهم العدالة الاستقامة وليس لكمال الاستقامة حد يوقف عنده فاعتبر فيها أمر واحد وهو رجحان جهة الدين والعقل على طريق الشهوة والهوى فمن ارتكب كبيرة سقطت عدالته وقل الوثوق بقوله وكذلك من أصر على صغيرة فأما من أتى بشيء من الصغائر من غير إصرار فعدل بلا شبهة
وللمحقق ابن تيمية مقالة في العدالة والدل جرى فيها على منهج من يقول برعاية المصالح الأحكام قال العدل في كل زمان ومكان وقوم بحسبه فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم وإن كان لو كان في غيرهم كان عدله على

وجه آخر وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كانت الصحابة لبطلت الشهادات كلها أو غالبها
وقال في موضع آخر ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل الجيش وحوادث البدو وأهل القرى الذين لا يوجد فيهم عدل وله أصول منها قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم وشهادة بعضهم على بعض في قول ومنها شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال وشهادة الصبيان فيما لا يشهده الرجال
ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان ليسا بملازمين للحدود أو اثنان مبتدعان فهذان خير من الكافرين والشروط التي في القرآن إنما هي في استشهاد التحمل للأداء وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص كما أن المحدثين كذلك
ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين والتثبت كما قال تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) وفي القراءة الأخرى ( فتثبتوا ) فعلينا التبين والتثبت وإنما أمر بالتبين عند خبر الفاسق الواحد ولم يأمر به عند خبر الفاسقين وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجب خبر الواحد أما إذا علم أنهما لم يتواطآ فهذا قد يحصل به العلم
وقال في موضع آخر شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع وفيما يندر حكمه ويخاف فيه

الاشتباه الأعلم والأئمة إذا ترجح عنده أحدهم قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قولا على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين لأن الحق واحد ولا بد ويجب أن ينصب الله على الحكم دليلا
الفائدة السابعة قد ظن بعض الناس أن العدالة على مذهب الجمهور لا تقبل الزيادة والنقصان فهي كالإيمان عند من يقول بعدم قبوله ذلك والصحيح أن العدالة كالضبط تقبل الزيادة والنقصان والقوة والضعف وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول في باب الترجيح في الأخبار وصرح العلامة نجم الدين سليمان الطوفي في شرح الأربعين حيث قال إن مدار الرواية على عدالة الراوي وضبطه فإن كان مبرزا فيهما كشعبة وسفيان ويحيى القطان ونحوهم فحديثه صحيح وإن كان دون المبرز فيهما أو في أحدهما لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن هذا أجود ما قيل في هذا المكان
واعلم أن العدالة والضبط إما أن ينتفيا فيالراوي أو يوجد فيه العدالة وحدها أو الضبط وحده فإن انتفيا فيه لم يقبل حديثه أصلا وإن اجتمعا فيه قبل وهو الصحيح المعتبر وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط قبل حدثه لعدالته وتوقف فيه لعدم ضبطه على شاهد منفصل يجبر ما فات من صفة الضبط وإن وجد فيه الضبط دون العدالة والضبط لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الراية ثم كل واحد من العدالة له مراتب عليا ووسطى ودنيا ويحصل بتركيب بعضها مع بعض مراتب للحديث مختلفة في القوة والضعف وهي ظاهرة مما ذكرناه ا هـ

وقد تبين بذلك أن الرواة الجامعين بين العدالة والضبط ينقسمون باعتبار تفاوت درجاتهم فيها إلى تسعة أنواع
النوع الأول رواة في الدرجة العليا من العدالة والضبط
النوع الثاني رواة في الدرجة العليا من العدالة وفي الدرجة الوسطى من الضبط
النوع الثالث رواة في الدرجة العليا من العدالة وفي الدرجة الدنيا من الضبط
والنوع الرابع رواة في الدرجة الوسطى من العدالة وفي الدرجة العليا من الضبط
النوع الخامس رواة في الدرجة الوسطى من العدالة والضبط
النوع السادس رواة في الدرجة الوسطى من العدالة وفي الدرجة الدنيا من الضبط
النوع السابع رواة في الدرجة الدنيا من العدالة وفي الدرجة العليا من الضبط
النوع الثامن رواة في الدرجة الدنيا من العدالة وفي الدرجة الوسطى من الضبط
النوع التاسع رواة في الدرجة الدنيا من العدالة والضبط
وهذه الأنواع التسعة متفاوتة الدرجات بعضها أعلى من بعض فالنوع الأول أعلى مما سواه من سائر الأنواع والنوع التاسع أدنى مما سواه منها وما سواهما من الأنواع منه ما يظهر تقدمه على غيره ظهورا بينا كالنوع الثاني بالنظر إلى النوع الثالث وكالنوع الرابع بالنظر إلى النوع الخامس ومنه ما يخفى تقدمه كالنوع الثاني بالنظر إلى النوع الرابع وكالنوع السادس بالنظر إلى النوع الثامن

وهذا من متعلقات مبحث الترجيح الذي هو من أصعب المباحث مسلكا وأبعدها مدركا
واعلم أن الذي أوجب خفاء تفاوت العدالة عند بعض العلماء أنهم رأوا أن أئمة الحديث قلما يرجحون بها وإنما يرجحون بأمور تتعلق بالضبط وسبب ذلك أنهم رأوا أن الترجيح بزيادة العدالة يوهم الناس أن الراوي الآخر غير عدل فيسوء به ظنهم ويشكون في سائر ما يرويه وقد فرض أنه عدل ضابط
فإن قلت فما يفعلون إذا كان كلاهما في درجة واحدة في الضبط قلت يمكن الترجيح فيها بأمور عارضة ككون الحديث الذي رواه قد تلقاه عمن كثرت ملازمته له وممارسته لحديثه ونحو ذلك بخلاف الراوي الآخر
وقد زعم بعضهم عدم تفاوت الضبط أيضا ورد عليه بعضهم بقوله لا شك في تحقق تفاوت مراتب العدالة والضبط في العدول والضابطين من السلف والخلف وقد وضح ذلك حتى صار كالبديهي
وهذه المسألة لها نظائر لا تحصى قد غلط فيها كثير ممن له موقع عظيم في النفوس فإنهم يذهلون عن بعض الأقسام فتراهم يقولون الراوي إما عدل أو غير عدل وكل منهما إما ضابط أو غير ضابط غير ملاحظين أن العدالة والضبط مقولان بالتشكيك فينبغي الانتباه لذلك فإنه ينحل به كثير من المشكلات
استدراك وبعد أن وصلت إلى هذا الموضع وقفت على عبارة للحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري خالف فيها الجمهور في ترجيح الأعدل على العدل فأحببت إيرادها ملخصة

وقد علم من وقف على كثير من مؤلفاته أنه يجنح في أكثر المواضع إلى مخالفة الجمهور وهو في أكثر ما خالفهم فيه أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب
وقد أطلق فكره في ميادين جمح به فيها أشد جماح غير أنه يلوح من حاله أنه لم يكن يريد إلا الإصلاح ومن أعظم ما ينقمون عليه أنه أفرط في التشنيع على من يرد عليهم ولو كانوا من العلماء الأعلام ولعل ذلك نشأ عما أشار إليه في كتاب مداواة النفوس حيث قال ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربوا في الطحال شديدا فولد ذلك علي من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمرا حاسبت نفسي فيه فأنكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي ولنرجع إلى المقصود فنقول
قال في كتاب الإحكام في أصول الأحكام في صفة من يلزم قبول نقله ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أن قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله لأنه لا يخلو كل حد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء
والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله

فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل
قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن يقال إنهم أترك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأقل عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى
ولكن لا بد لنا من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر فأول ذلك أن الله عز و جل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر الله تعالى أو أمر رسوله عليه الصلاة و السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله فقد قفا ما ليس له به علم
وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وأيضا فكل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد الرسل وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط
ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أنه أكثر نوافل في الخير فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراويين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر
وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له فمن حكم في دين الله عز و جل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون

برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه نعوذ بالله من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور فيجب قبول ما قام عليه الدليل سواء طابت عليه النفس أو لم تطلب وبما ذكرنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه
تنبيه الضابط من الرواة هو الذي يقل خطؤه في الرواية وغير الضابط هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها سواء كان ذلك لضعف استعداده أو لتقصيره في اجتهاده قال الترمذي في العلل كل من كان متهما في الحديث بالكذب وكان مغفلا يخطئ كثيرا فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه
وقد توهم بعض الناس أن الضبط لا يختلف بالقوة والضعف فزعم أن الراوي إما أن يوصف بالضبط وإما أن يوصف بعدمه والموصوفون بالضبط نوع واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في الدرجة فلا يقال فلان أتم ضبطا من فلان وقد عرفت أنهم ثلاثة أنواع والعيان يغني عن البرهان
وأما الثقة فهو الذي يجمع بين العدالة والضبط وهو في الأصل مصدر وثق تقول وثقت بفلان ثقة ووثوقا إذا ائتمنته ولكونه مصدرا في الأصل قيل هو وهي وهما وهم وهن ثقة ويجوز تثنيته وجمعه فيقال هما ثقتان وهم وهن ثقات وتقول وثقت فلانا توثيقا إذا قلت إنه ثقة ومثل الثقة الثبت قال في المصباح رجل ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا والجمع أثبات والثبت أيضا الحجة تقول لا أحكم إلا بثبت وقد ذكروا أنه من أعلى الألفاظ التي تستعمل في الرواية

المقبولة ثقة ومتقن وثبت وحجة وعدل حافظ وعدل ضابط


الفصل الخامس
في أقسام الخبر إلى متواتر وآحاد قد تقرر أن من الأشياء ما يعرف بواسطة العقل ككون الواحد نصف الاثنين وككون كل حادث لا بد له من محدث وأن منها ما يعرف بواسطة الحس ككون زيد قال كذا أو فعل كذا فإن القول يدرك بحاسة السمع والفعل يدرك بحاسة البصر والذي يعرف بواسطة الحس قد يعرفه من لم يحس به بواسطة خبر من أحس به
ولما لم يكن كل مخبر صادقا وكان الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته اقتضى الحال أن يبحث عما يعرف به صدق الخبر إما بطريق اليقين وذلك في الخبر المتواتر أو بطريق الظن وذلك في غير المتواتر إذا ظهرت أمارات تدل على صدق الخبر
ولما كان الحديث عبارة عن أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله وكان من لم يدركها بطريق الحس لا سبيل له إلى إدراكها إلا بطريق الخبر اعتنى العلماء

الأعلام ببيان أقسام الخبر مطلقا وجعلوا للحديث الذي هو قسم من أقسام الخبر مبحثا خاصا به اعتناء بشأنه فإذا عرفت هذا نقول
قد قسم علماء الكلام والأصول الخبر إلى قسمين خبر متواتر وخبر آحاد
الخبر المتواتر فالخبر المتواتر هو خبر عن محسوس أخبر به جماعة بلغوا في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه
وخرج بما ذكر ثلاثة أشياء
أحدها الخبر عن غير محسوس كالخبر عن حدوث العالم وكون العدل حسنا والظلم قبيحا
وثانيها الخبر الذي أخبر به واحد
وثالثها الخبر الذي أخبر به جماعة لم يبلغوا في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه وإن دلت قرائن الأحوال على صدقهم
والخبر المتواتر مفيد للعلم بنفسه
خبر الآحاد وخبر الآحاد ويسمى أيضا خبر الواحد هو الخبر الذي لم تبلغ نقلته في الكثرة مبلغ الخبر المتواتر سواء كان المخبر واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة إلى غير ذلك من العداد التي لا تشعر بأن الخبر دخل بها في حيز المتواتر
والتواتر في اللغة التتابع تقول واترت الكتب فتواترت إذا جاء بعضها في إثر بعض وترا وترا من غير انقطاع والمواترة المتابعة ولا تكون بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومواصلة ومواترة الصوم أن تصوم يوما وتفطر يوما أو يومين وتأتي به وترا ولا يراد به المواصلة لأنه من الوتر وتترى أصلها

الطبقة الثانية ما يشترط في الطبقة الأولى من كونها تبلغ في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في الخير وقس على ذلك ما إذا كانت الطبقات ثلاثة فأكثر
ولما كانت الأخبار المتواترة في الغالب متعددة الطبقات قال العلماء لا بد في الخبر المتواتر من استواء الطرفين فالطرفان هما الطبقة الأولى والطبقة الأخيرة والوسط وهو ما بينهما والمراد بالاستواء الاستواء في الكثرة المذكورة ولا الاستواء في العدد بأن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه إذا كان كل عدد منها الكثرة المذكورة مثل أن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه إذا كان كل عدد منها فيه الكثرة المذكورة مثل أن يكون عدد الطبقة ألفا وعدد الثانية تسع مئة وعدد الثالثة ألفا وتسع مئة
وبما ذكر يعلم أن الرواة إذا لم يبلغوا في الكثرة المبلغ المشروط في الخبر المتواتر سواء كان ذلك في جميع الطبقات أو في بعضها لم يسم خبرهم متواترا وإنما يسمى مشهورا
قال الغزالي في المستصفى الشرط الثالث أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد فيه من الشروط ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه العصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد اولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده

والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه الصلاة و السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وفي نص الإمامة ا هـ
المسألة الثانية الخبر المشهور خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين مشهور وغير مشهور فالمشهور هو خبر جماعة لم يبلغوا في الكثرة مبلغا يمنع تواطؤهم على الكذب فيه فخرج بقولهم خبر الواحد وبتتمة التعريف الخبر المتواتر
هذا وقد عرف المتواتر بتعاريف شتى وأدلها على المقصود التعريف الذي ذكرناه وقد وقع لبعضهم في تعريفه ما يوهم دخول بعض أقسام المشهور فيه ولعلهم جروا على مذهب أبي بكر الرازي المعروف بالجصاص فإنه جعل المشهور أحد قسمين المتواتر
وقد ذهب كثير من العلماء إلى تقسيم الخبر إلى ثلاثة أسام متواتر ومشهور وآحاد فيكون المشهور سما مستقلا بنفسه فينبغي الانتباه لذلك
وقد عرف بعضهم المشهور بقوله هو الخبر الشائع عن أصل فخرج بذلك الخبر الشائع لا عن أصل وقد يطلق المشهور على ما اشتهر على الألسنة سواء كان له أصل أو لم يكن له أصل وقد مثلوا ما ليس له أصل بحديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل وحديث ولدت في زمن الملك العادل كسرى

وقد يسمى المشهور مستفيضا يقال استفاض الخبر إذا شاع فهو مستفيض وأقل ما ثبت به الاستفاضة اثنان وينقل لك عن بعض الفقهاء وقيل ثلاثة وينقل ذلك عن بعض المحدثين وقيل أربعة وينقل ذلك عن علماء الأصول فقد قالوا المستفيض ما زاد نقلته على ثلاثة
ومن العلماء من فرق بين المشهور والمستفيض فجعل المشهور أعم إما لكونه لم يشترط في المشهور أن يكون في أوله أيضا مرويا عن غير واحد وشرط ذلك في المستفيض وإما أن يكون جعل المشهور ما رواه اثنان فأكثر والمستفيض ما رواه ثلاثة فأكثر فكل مستفيض عند هؤلاء مشهور وليس كل مشهور مستفيض ومنهم من فرق بينهما بوجه آخر والمهم الانتباه لاختلاف الاصطلاح هنا حذرا من وروع الوهم
وأما النسبة بين المشهور والمتواتر فهي التباين إلا عند من جعل المشهور قسما من المتواتر
وأما قول بعض الأفاضل كل متواتر مشهور وليس كل مشهور متواترا وذلك بعد أن عرف منهما بما عرفه به الجمهور فهو مما ينتقد قال بعضهم ولعله أراد بالمشهور المعنى اللغوي لا الاصطلاحي
وقد وقع لبعض علماء الأثر عبارة تسوغ لصاحبها القول المذكور وهي قوله والغريب وهو ما تفرد به واحد عن الزهري وشبهه ممن يجمع حديثه فإن تفرد اثنان أو ثلاثة سمي مشهورا ومنه المتواتر ا هـ 3فصاحب هذه العبارة يسوغ له أن يقول كل متواتر مشهور وليس كل مشهور متواتر ا ولا ينتقد عليه ذلك وإنما ينتقد عليه مخالفة الجمهور في الاصطلاح لما ينشأ عنها في كثير من الأحيان من إيقاع في أشراك الأوهام ولعل ذلك الفاضل قد جاءه الوهم من هذا الموضع


المسألة الثالثة قد عرفت أن خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين مشهور وقد قسم المحدثون غير المشهور إلى قسمين عيز وغريب
فالعزيز هو الذي يرويه جماعة عن جماعة غير أن عددها في بعض الطبقات يكون اثنين فقط فخرج بذلك المشهور عند من يقول إن أقل ما تثبت به الشهرة ثلاثة وهو المشهور
والغريب هو الذي ينفرد بروايته واحد في موضع ما من مواضع السند
والحاصل أن الخبر ينقسم أولا إلى قسمين وآحاد وأن خبر الآحاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام مشهور وعزيز وغريب وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى
وقد قسم بعض علماء الأصول الخبر إلى ثلاثة أقسام متواتر ومشهور آحاد فجعلوا المشهور قسما مستقلا بنفسه ولم يدخلوه في المتواتر كما فعل الجصاص ولا في خبر الآحاد كما فعل غيرهم وقد عرفوا المشهور بما كان في الأصل خبر آحاد ثم انتشر في القرن الثاني والثالث مع تلق المة له بالقبول فيكون بينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه لصدقهما فيما رواه في الأصل ثلاثة ثم تواتر في القرن الثاني والثالث وانفراد المستفيض عن المشهور فيما رواه في الأصل ثلاثة ثم لم يتواتر في القرن الثاني والثالث وانفراد المشهور عن المستفيض فيما رواه في الأصل واحد أو اثنان ثم تواتر في القرن الثاني والثالث

وقد عرف الجصاص المتواتر بقوله هو ما أفاد العلم بمضمون الخبر ضرورة أو نظرا فزاد قوله أو نظرا ليدخل المشهور
وقد توهم بعضهم من عبارته انه يحكم بكفر منكر المشهور لإدخاله له في المتواتر يكفر جاحده وليس المر كذلك لأن الذي يكفر جاحده إنما هو القسم الأول من المتواتر عنده وهوالذي يفيد العلم ضرورة كصيام شهر رمضان وحج البيت ونحو ذلك بخلاف القسم الثاني منه وهو الذي يفيد العلم نظرا
قال بعض الأفاضل إنما لم يكفر منكر المشهور لأن إنكاره لا يؤدي إلى تكذيب النبي عليه الصلاة و السلام لأنه لم يسمعه منه عليه الصلاة و السلام من غير واسطة ولم يروه عنه عدد لا يتصور منهم الكذب خطأ أو عمدا وإنما هو خبر آحاد تواتر في العصر الثاني وتلقاه أهله بالقبول فإنكاره إنما يؤدي إلى تخطئة العلماء نسبتهم إلى عدم التروي حيث تلقوا بالقبول ما لم يثبت وروده عن الرسول
وتخطئة العلماء ليست بكفر بل هي بدعة وضلالة بخلاف إنكار المتواتر فإنه مشعر بتكذيب النبي عليه الصلاة و السلام إذ المتواتر بمنزلة المسموع منه وتكذيب الرسول كفر
على ان المشهور لا يوجب علم اليقين وغنما يوجب ظنا قويا فوق الظن الذي يحصل من خبر الآحاد تطمئن به النفس إلا عند ملاحظة كونه في الأصل كان من خبر الآحاد وقد ذكروا للمشهور أمثل منها المسح على الخفين
والظاهر أنه ليس كل مشهور يعد إنكاره بدعة وضلالة فقد قال الإمام الشافعي في الأم في أثناء محاورة جرت بينه وبين أحد الفقهاء
وقلت له أرأيت قول الله تبارك وتعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا

وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين أليس بين في كتاب الله عز و جل بان الفرض غسل القدمين أو مسحهما قال بلى
قلت لم مسحت على الخفين ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس إلى اليوم من ترك المسح على الخفين ويعنف من مسح
قال ليس في رد من رده حجة وإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم شيء لم يضره من خالفه
قلت ونعمل به وهو مختلف فيه كما نعمل به لو كان متفقا عليه ولا نعرضه على القرآن قال لا بل سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل على معنى ما أراد الله عز و جل
قلنا فلم لا تقول بهذا في اليمين مع الشاهد وغيره مما تخالف فيه الحديث وتريد إبطال الحديث الثابت بالتأويل وبأن تقول الحديث يخالف ظاهر القرآن ا هـ
المسألة الرابعة قد يقوى الخبر وأصله ضعيف وقد يضعف وأصله قوي وذلك لأسباب تعتريه غير ان الخبر إذا عرضت له القوة لا يرتفع عن درجته وإذا عرض له الضعف نزل عنها فالمتواتر مهما زاد تواتره يبقى متواترا إذ درجة فوقه يرتفع إليها وإذا نقص تواتره نقصا بينا نزل عن درجته إلى درجة المشهور ثم قد يضعف إلى أن يصير عزيزا ثم غريبا ثم قد يندرس فكم من خبر متواتر قد درسته الأيام ألا ترى أن كثيرا من الأبنية العظيمة لا يعلم الآن يقينا أسماء بنائها فضلا عن زمانهم قال المتنبي
(
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع )
(
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويلحقها الفناء فتتبع )

والمشهور مهما زادت شهرته لا يرتفع عن درجته إلى درجة المتواتر إذ الشرط في المتواتر أن يكون التواتر موجودا فيه من الطبقة الأولى فما بعدها فإذا فقد ذلك في طبقة من الطبقات لا سيما الأولى لم يعد متواترا فإن كان متواترا في أول الأمر ثم زال عنه التواتر قيل خبر منقطع التواتر فإن لم يكن متواترا من أول الأمر لم يقل له متواتر نعم يسوغ أن يوصف بالتواتر النسبي فيقال هذا الخبر قد تواتر في الطبقة الثانية أو الثالثة مثلا ولا يقال له خبر متواتر على الإطلاق
فإذا ضعفت الشهرة في المشهور نزل عن درجته وانتقل إلى ما بعدها كما أشرنا إليه وقس على ذلك العزيز والغريب غير أن الغريب لما كان في المنزلة الدنيا فإذا ضعف اندرس وصار نسيا منسيا والخبر قد يحيا بعد الاندراس وذلك بظهور أمر يدل عليه واعلم أنه قد يشتبه الشائع عن أصل بالمتواتر بل قد يشيع خبر لا أصل له فيظنه من لم يتتبع أمره متواترا ولكثرة الاشتباه في هذا الباب على كثير من الناس ظن بعضهم أن لا سبيل إلى أخذ اليقين من الأخبار لا سيما التي مضت عليه قرون كثيرة فقد ذكر في كتب الكلام وكتب الأصول أن فرقة من الناس أنكرت إفادة المتواتر العلم اليقيني وقالت إن الحاصل منه هو الظن القوي الغالب وفرقة منهم سلمت إفادته العلم اليقيني في الأمور الحاضرة وأنكرت في الأمور الغابرة
قال الغزالي في المستصفى أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث حصروا العلم في الحواس وأنكروا هذا وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون اللف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء قديما محدثا وامورا أخر ذكرناها في مدراك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم

العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس
ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود النبياء بل ولا في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل ولا في الدول والوقائع الكبيرة
فإن قيل لو كان معلوما ضرورة لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه لقولكم للزمكم ترك المحسوسات لخلاف السوفسطائية ا هـ
وقد أشار في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة إلى أمر اشتباه المشهور بالتواتر على من لم يمعن النظر فقال في أثناء بيان الأمور الخمسة التي يجب على من يخوض في التكفير أن ينظر فيها قبل الإقدام عليه
الثاني في النص المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالإجماع فإن ثبت تواترا فهل هو على شرط التواتر أم لا إذ ربما يظن المستفيض متواترا وحد التواتر ما لا يمكن الشك فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرها وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوة وهل يتصور ان يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار
والشرط في المتواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ وأحوال

القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع الكثير رابطة في التوافق لا سيما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ا هـ
المسألة الخامسة شرط قوم في التواتر أن يكون المخبرون لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو شرط غير لازم فإن الحجاج إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل المدينة إذا أخبروا عن النبي صلى الله عليه و سلم بشيء حصل العلم بخبرهم وقد حواهم بلد وأهل الجامع أذا أخبروا بنائه في الجمعة حالت بينهم وبين صلاتها حصل العلم بخبرهم وقد حواهم الجامع وهو دون البلد
وأرادوا بكون المخبرين لا يحصرهم عدد أنهم لكثرتهم وتباين بلدانهم يتعذر أو يتعسر إحصاؤهم فتشنيع ابن حزم على القائلين به جار على عادته في التهويل وحمل عبارة من خالفه على أقبح محاملها وإن كانت ممكنة التأويل
وشرط قوم في المخبرين عددا معينا بحيث إذا كان عددهم أقل منه لم يسم خبرهم متواترا واختلف في ذلك العدد فقيل هو ثلاثة وقيل أربعة وقيل خمسة وقيل عشرة وقيل اثنا عشر وقيل عشرون وقيل أربعون وقيل خمسون وقيل غير ذلك وهي أقوال ليس لها برهان
وقال الجمهور الشرط ان يبلغ عدد المخبرين مبلغا يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب فيه ولا يمكن تحديد ذلك العدد والضابط في ذلك حصول العلم فإذا حصل علمت أن الخبر متواترا وإلا فلا

قال الغزالي في المستصفى عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم وإلى ما هو زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم ضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع
قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيده في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وان يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور ان يختلف
وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فغن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز ان تختلف فيه الوقائع والأشخاص وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا وهذا غير مرضي لأن مجرد الإخبار يجوز ان يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه إخبار فلا يبعد ان تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالاتها فنقول لا شك في أنا نعرف أمورا ليس محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبة لإنسان وبغضه له وخوف

منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال
ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكد ذلك ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال ولكن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع
ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذله ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر ضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا به علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض
ثم قال فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهد يتطرق إليه الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبيات والمتواترات فليلحق هذا بها وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عند انضمام قرائن إليه ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم
وقال العلامة جمال الدين حسن بن يوسف لن المهر الحلي في نهاية الوصول إلى علم الأصول قال أبو الحسن البصري والقاضي أبو بكر كل عدد وقع العلم

بخبره في واقعه لشخص لا بد وأن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه
وهذا إنما يصح على إطلاقه لو كان العلم قد حصل بمجرد ذلك العدد من غير أن يكون للقرائن المحتفة به مدخل في التأثير لكن العلم قد يحصل بالقرائن العائدة إلى إخبار المخبرين وأحوالهم واختلاف السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله ومع فرض التساوي في القرائن قد يفيد آحادها الظن ويحصل من اجتماعها العلم فأمكن حصول العلم بثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض لما اختص به من القرائن التي لا تحصل لغيره
ولو سلم اتحاد الواقعة وقرائنها لم يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في الفهم للقرائن وتفاوت الأشخاص في الإدراك والذكاء معلوم بالضرورة
وقال أيضا ظن قوم أن لحصول العلم عقب التواتر يشترط عدد معين وليس بحق فإن العلم هو القاضي بعدد الشهادات دون العكس فرب عدد أفاد العلم في قضية لشخص ولا يحصل مع مثله في تلك القضية لغير ذلك الشخص أو في غيرها له
وقال بعض المتكلمين إن حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف باختلاف الوقائع والمخبرين والسامعين فقد يحصل العلم في واقعة بعدد مخصوص ولا به في واقعة أخرى وقد يحصل بإخبار جماعة مخصوصة ولا يحصل بإخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد وقد يحصل لسامع لولا يحصل لسامع آخر
وقد عرف بعض العلماء المتواتر بقوله هو الخبر الذي يوجب بنفسه العلم فخرج بذلك الآحاد فإن منه ما لا يوجب العلم أصلا ومنه ما يوجب العلم لا بنفسه لكن بواسطة القرائن التي احتفت به

وفي هذا التعريف إشكال فإنه يوهم أن الموجب للعلم في المتواتر إنما هو مجرد كثرة المخبرين وستعرف ما يرد في ذلك
قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة ان يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة ا هـ
وقال حجة الإسلام الغزالي عن العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر تقتضي إياله الملك وسياسته إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة على الاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم
وقد صرح كثير من علماء الأصول بأن المتواتر لا بد من القرائن فلا يبقى حينئذ فرق بينه وبين خبر الآحاد الذي احتفت به قرائن أوجبت العلم بصدقه ويكون إيجاب كل منهما للعلم إنما هو بمعونة القرائن
ولا يفيد في الجواب ان يقال القرائن في المتواتر متصلة فهي غير خارجة عنه فصح أن يقال إنه يوجب العلم بنفسه لأن خبر الآحاد المذكور كثيرا ما تكون القرائن فيه متصلة
والمراد بالقرائن ما يكون متعلقا بحال المخبر والمخبر به والخبر أما

المخبر فكأن يكون غير معروف بالكذب ولا داعي له في ذلك الخبر من رغبة او رهبة تلجئه إلى الكذب فيه وأما المخبر به فكأن يكون أمرا ممكن الوقوع لا سيما إن ظهرت من قبل مقدمات تقرب أمره وأما الخبر فكأن يكون مسوقا على هيئة واضحة ليس فيهما جمجمة ولا تلعثم ولا اضطراب
والمراد بالقرائن المنفصلة ما لا يتعلق بما ذكر ومثال ذلك ما إذا أخبر جماعة بموت ابتن لأحد الرؤساء كان مريضا ثم تلا ذلك أن خرج الرئيس من الدار حاسر الرأس حافي القدم ممزق الثياب مضطرب الحال وهو رجل ذو منصب كبير ومروءة تامة لا يخالف عادته إلا لمثل هذه النائبة فإن هذه القرينة منفصلة عن الخبر ولها أعظم مدخل في العلم بصحته
واعترض بعضهم بأن العلم إنما حصل بالقرينة فكيف نسبتموه إلى الخبر وأجيب بأن العلم حصل بالخبر بمعونة القرينة ولولا الخبر لجوزنا شخص آخر أو وقوع كارثة تقوم مقام موت الابن
وقد أسقط بعضهم من تعريف المتواتر قوله بنفسه فقال في تعريفه هو الخبر الذي يوجب العلم وفيه أيضا إشكال لأنه يدخل فيه خبر الآحاد إذا احتفت به قرائن توجب العلم وكأن بعضهم شعر بذلك فقال في تعريفه هو الخبير المفيد للعلم اليقيني
واعلم أن سبب اختلاف العبارات واضطرابها إنما هو غموض هذا المبحث ودقته بحيث صارت العبارات فيه قاصرة عن أداء جميع ما يجول في النفس منه فكن منتبها لذلك وقس عليه ما أشبهه من المباحث واحرص على أخذ زبدة ما يقولون ولا يصدنك عن ذلك اختلاف العبارات او الاعتبارات

نورد ما ذكرناه إتماما للفائدة قال في كتاب الإحكام فصل فيه أقسام الأخبار عن الله تعالى
قال أبو محمد جاء في النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله
ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقول الله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )
فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة عن كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي تى به سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره
وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتآليف

ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه ان لا يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة
قال علي وقد اختلف الناس في مقدار النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن وقالت طائفة لا يقبل من أقل من ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل لا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين
قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى ان يكون شيء منها صح عنده بالعدد الذي شرطه كل واحد من ذلك العدد ع مثل ذلك العدد كله وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر من دينه أو دنياه
فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة لا نحاشي شيئا لأنه وإن مع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق
فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا قال علي ونقول ها هنا إن

شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله التوفيق لكل من حد في عدد نقله خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا تحصيهم وغن كان في ذاته محصى ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل
فإذ لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة
وأيضا فإنه ما في العقول فرق بين نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر وبين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال بموجب أن لا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمئة ألف وغير ذلك
ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه العداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف

ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه
وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فغن نظروا هذا بما لا يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان
وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما صح بإجماع أو نص أو أوجبت طبيعته ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد
قال أبو محمد وهذا قول من غمرة الجهل لأنه ليس هذا موجودا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعمله نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه و سلم في العالم وهذا كفر
وأيضا فليزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ان لا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وأن لا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة
وهم يعرفون بضرورة صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح

وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو وشر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده إلا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع انه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب
قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبه إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل تعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسنا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ولا رهبة منه ولا يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك في سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ووعاه فيما يرده كل روم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو واقعة أو غير ذلك وغنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته ما يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت

اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لن نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين ونحو ذلك والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا
وأما الذي لا شك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا ان خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل وما هي إلا سرقات وغارات من بعض الشعراء على بعض
قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في كل وقت ولكن على قدر ما يتهيأ وقد بينا ذلك في كتاب الفصل
قال علي فهذا قسم قال والقسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس

والبرهان على صحة وجوب قبول قول الله عز و جل ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارة النافر منها بأمره النافر بالتفقه وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا المر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه ا هـ
وقال في مقدمة كتاب الملل والنحل بعد أن أبان أن من البديهيات التي يشعر بها الطفل في مكان واحد وأنه لا يعلم الغيب أحد ومن علم في مكانين وأنه لا يكون جسمان في مكان واحد وانه لا يعلم الغيب احد ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض فصح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبرا كاذبا طويلا فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر علاما بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك
فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعدا مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فالبضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي ومرض من مرض وإفاقة من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا

والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لا شك عند أحد يوفي عقله في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
وله في هذا الكتاب مقالة تناسب ما نحن فيه وقد أحببنا إيرادها هنا بطريق الاختصار قال ونحن نذكر صفة وجوه النقل عند المسلمين لكتابهم ودينهم وما روي عن أئمتهم حتى يقف المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة
أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عند أمثالهم جيلا جيلا لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون في ان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز و جل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم أخذ عن اولئك حتى بلغ إلينا
ومن ذلك الصلوات الخمس فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد أن أهل السند يصلونها كما يصليها أهل الأندلس وأن أهل أرمينية يصلونها كما يصليها أهل اليمن
وكصيام شهر رمضان فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه صامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وصامه معه كل من اتبعه في كل لد كل عام ثم كذلك جيلا جيلا إلى يومنا هذا
وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في انه عليه الصلاة و السلام حج مع أصحابه وأقام المناسك ثم حج المسلمون من كل أفق من الآفاق

كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم وكجملة الزكاة وكسائر الشرائع التي في القرآن من تحريم القرائب والميت والخنزير وسائر ما ورد في نص القرآن
الثاني شيء نقلته الكافة تعن مثلها حتى يبلغ المر كذلك إلى النبي عليه الصلاة و السلام ككثير من آياته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق وفي تبوك بحضرة الجيش وككثير من مناسك الحج وكزكاة التمر والبر والشعير والورق والذهب والإبل والبقر والغنم ومعاملته أهل خبير وغير ذلك مما يخفى على العامة وإنما يعرفه كواف أهل العل فقط
الثالث ما نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إلى النبي عليه الصلاة و السلام يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان على ان أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من طرق جماعة من الصحابة وغما إلى الصاحب وغما إلى التابع وغما إلى إمام أخذ عن التابع يعرف لك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن
وهذا نقل خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل وأبقاه عندهم غضا جديدا مد أربع مئة وخمسين عاما في المشرق والمغرب والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصي ععدهم إلا خالقهم من الآفاق البعيدة ويحافظ على تقييده النقاد منهم فلا تفوتهم زلة في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسقا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر
وهذه الأقسام الثلاثة التي نأخذ ديننا منها ولا نتعداها إلى غيرها
والرابع شيء نقله أهل المشرق والمغرب أو الكافة أو الواحد الثقة عن أمثالهم إلى ان يبلغ من ليس بينه وبين النبي عليه الصلاة و السلام إلا واحد فأكثر فسكت ذلك المبلوغ إليه عمن أخبره بتلك الشريعة عن النبي عليه الصلاة و السلام فلم يعرف من هو فهذا نوع يأخذ به كثير من المسلمين ولسنا نأخذ به

البتة ولا نضيفه إلى النبي عليه الصلاة و السلام إذ لم نعرف من حدث به عنه وقد يكون غير ثقة ويعلم منه غير الذي روى عنه ما لم يعرف منه الذي روى عنه
والخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب او كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -
إلا أن في الطريق رجلا مجروحا بكذب أو غفلة او مجهول الحال فهذا أيضا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه
والسادس نقل نقل بأحد الوجوه التي قدمنا إما بنقل من بين المشرق والمغرب او بالكافة عن الكافة أو بالثقة عن الثقة حتى يبلغ ذلك إلى صاحب أو تابع أو غمام دونهما انه قال كذا أو حكم بكذا غير مضاف ذلك إلى النبي عليه الصلاة و السلام فمن المسلمين من يأخذ بهذا ومنهم من لا يأخذ به ونحن لا نأخذ به أصلا لأنه لا حجة في فعل أحد دون من أمرنا الله باتباعه وأرسله إلينا ببيان دينه ولا يخلو فاضل من وهم لا حجة فيمن يهم ولا يأتي الوحي ببيان وهمه
المسألة السابعة ينقسم التواتر إلى قسمين لفظي ومعنوي فاللفظي هو ما اتفقت ألفاظ الرواة فيه مثل أن يقولوا فتح فلان مدينة كذا سواء كان اللفظ أو بلفظ آخر يقوم مقامه مما يدل على المعنى المقصود صريحا والمعنوي هو ما تختلف فيه ألفاظ الرواة بأن يروي قسم منهم واقعة وغيره واقعة أخرى وهلم جرا غير ان هذه الوقائع تكون مشتملة على قدر مشترك فهذا القدر المشترك يسمى التواتر المعني او التواتر من جهة المعنى
وذلك مثل ان يروي واحد أن حاتما وهب مئة دينار وآخر انه وهب مئة من الإبل وآخر انه وهب عشرين فلسا وهلم جرا حتى يبلغ الرواة حد التواتر فهذه

الأخبار تشترك في شيء واحد وهو هبة حاتم شيئا من ماله وهو دليل على سخائه وهو ثابت بطريق التواتر المعنوي ووجه ذلك أن يقال إن هذه الأخبار مشتركة في أمر واحد وهو كونه سخيا فإن الراوي لخبر منها صريحا راو لهذا المشترك بطريق الإيماء فإذا بلغوا حد التواتر كان هذا المشترك وهو سخاؤه مرويا بطريق التواتر إلا أنه من قبيل التواتر المعنوي
وقال بعضهم الوجه في ذلك أن يقال إن هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد ان يكون واحد منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق خبر من هذه الأخبار ومتى صدق واحد منهم ثبت كونه سخيا والوجه الأول أقوى لأن السخاء لا يثبت بالمرة الواحدة
قال بعض علماء الأصول إن الأخبار التي لا تفيد العلم قد تشترك في معنى كلي فإذا بلغ مجموع الرواة حد التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر وذلك مثل أن ينقل جماعة أن عليا رضي الله عنه قتل من العداء كذا في واقعة وينقل جماعة أخرى أنه قتل من الأعداء كذا في واقعة وينقل جماعة أخرى أنه قتل من الأعداء كذا في واقعة أخرى وهلم جرا فإذا بلغ الرواة بأسرهم مبلغ التواتر بين هذه الأخبار وهو شجاعة علي مرويا بالتواتر من جهة المعنى وإن كان كل واحد من تلك الأخبار مرويا بطريق الآحاد وقس على ذلك ما يشبهه مثل حلم أحنف وذكاء إياس

وقال الشيخ جمال الدين أبو عمرو عثمان المعروف بابن الحاجب في كتاب منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل إذا اختلفت أخبار المخبرين في التواتر في الوقائع واشتملت على معنى كلي مشرك بجهة التضمن أو الالتزام حصل العلم به كوقائع عنترة في حروبه وحاتم في سخائه وعلي في شجاعته ولا يبعد أن يكون العلم بغيره أسرع وقال في مختصره المشهور إذا اختلف التواتر في الوقائع فالمعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام كوقائع حاتم وعلي
وقال الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي في اللمع اعلم ان الخبر ضربان متواتر وآحاد فأما المتواتر فهو كل خبر وعلم مخبره ضرورة وذلك ضربان تواتر من جهة اللفظ كالأخبار المتفقة عن القرون الماضية والبلاد النائية وتواتر من طريق المعنى كالأخبار المختلفة عن سخاء حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك ويقع العلم بكلا الضربين ا هـ
وإذا ذكر المتواتر تبادر إلى الذهن القسم الول وقد اختلف العلماء في أحاديث فقال بعضهم هي متواترة وقال بعضهم هي غير متواترة وقال عض المحققين إن الخلاف بين الفريقين لفظي فالذي قال إنها غير متواترة أراد أنها غير متواترة من جهة اللفظ والذي قال إنها متواترة أراد أنها متواترة من جهة المعنى
قال بعض علماء الأصول إن الكتاب لا يثبت إلا بالتواتر وأما السنة والإجماع فيثبتان بالتواتر وبالآحاد لكن المتواتر فيهما قليل بل المرجح أنه ليس في

السنة متواتر إلا المتواتر في المعنى دون اللفظ ومن أطلق فكلامه محمول على إرادة ذلك ولا في الإجماع أيضا متواتر
وقال بعضهم متحقق في أصول الشائع كالصلوات الخمس وعدد ركعاتها والزكاة والحج تحققا كثيرا ومرجع تواترها في الحقيقة المعنى دونه اللفظ ويقل تحققه في الأحاديث الخاصة المنقولة بألفاظ مخصوصة لعدم اتفاق الطرفين والوسط فيها وإن كان مدلول كثير منها متواترا في بعض الموارد فهي كالأخبار الدالة على شجاعة علي وكرم حاتم ونظائرهما حتى قال ابن الصلاح من سئل عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه وحديث إنما الأعمال بالنيات ليس متواترا وإن كانت رواته منذ أصر إلى الآن يزيد عددهم على عدد التواتر أضعافا مضاعفة
وذلك لأن التواتر فيد قد طرأ بعد وكثيرا ما يدعى تواتر ما هو من هذا القبيل مع أن التواتر يشترط فيه أن يكون حاصلا في جميع الأزمنة لا سيما أولها فشرط التواتر فيها مفقود من جهة الابتداء وقد نازع بعض العلماء في ذلك فادعى وجود التواتر بكثرة انتهى باختصار
وقد وقع هنا من الإبهام والإيهام في العبارات ما قد يضر المبتدي فإنه ربما توهم منها أنه ليس في السنة متواتر مع أن ما تواتر منها سواء كان من جهة اللفظ أو من جهة المعنى كثير يعسر إحصاؤه غير ان الأئمة المتعرضين لضبط السنة لم يعرضوا له لأنه ليس من مباحثهم
والخلاف المذكور إنما وقع في أحاديث ذكرت في كتب السنة ولها أسانيد شتى اتفقت لها لفرط العناية بها وإلا فالمتواتر يعسر إيراد إسناد له على قواعد المحدثين فضلا عن أسانيد وذلك أن الإسناد إنما يحرص عليه في أخبار الآحاد لما يعرض فيها من الشك
وإذا ترددت فيما قلنا فارجع إلى نفسك وانظر هل يمكنك ان تورد إسنادا لما

علمته وتيقنته من الأمور المتواترة التي لا تحصى ولو كانت قريبة العهد بك وإنما ذكرنا ذلك مع ظهروه لأنه قد يكون من شدة الظهور الخفاء
قال الإمام الحافظ عثمان بن الصلاح في مقدمته المتعلقة بعلوم الحديث ومن المشهور المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله وأهل الحديث لا يذكرونه إلا باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص وغن كان الخطيب الحافظ قد ذكره ففي كرمه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعاتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في روايته من أوله إلى منتهاه
ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من الحديث وإن نقله عدد التواتر وزيادة لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجد في أوائله على ما سبق ذكره نعم حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار نراه مثالا لذلك فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجم وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم
وذكر أبو بكر البزار الحافظ الجليل في مسنده أنه رواه ع رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو من أربعين رجلا من الصحابة وذكر بعض الحفاظ أنه رواه عنه صلى الله عليه و سلم اثنان وستون نفسا من الصحابة وفيهم العشرة

المشهود لهم بالجنة قال وليس في الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرة غيره ولا يعرف حديث يروي عن أكثر من ستين نفسا من الصحابة عن رسول الله إلا هذا الحديث الواحد
قلت وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد وفي بعض ذلك عدد التواتر ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار والله أعلم ا هـ
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي شرح تقريب النواوي قال ابن الصلاح رواه اثنان وستون من الصحابة وقال غيره رواه أكثر من مئة نفس وفي شرح مسلم للمصنف رواه نحو مئتين قال العراقي وليس في هذا المتن بعينه ولكنه في مطلق الكذب والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيا ثم ذكر أسماءهم واحدا بعد واحد مع الإشارة لمن أخرج حديثه من الأئمة
وقد أورد أمثلة للمتواتر اللفظي منها حديث الحوض فإنه مروي عن نيف وخمسين من الصحابة ومنها حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فإنه مروي عن نحو ثلاثين منهم ومنها نزل القرآن على سبعة أحرف فإنه مروي عن سبع وعشرين
وأورد مثالا للمتواتر المعنوي وهو رفع اليدين في الدعاء فإنه قد روي فيه نحو مئة حديث وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة فكل قضية منها لم تتواتر لكن القدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع ا هـ

هذا وما قاله ابن الصلاح من ان التواتر لا يبحث عنه في علم الأثر مما لا يمترى فيه قال بعض العلماء العلام ليس المتواتر من مباحث علم الإسناد إذ هو علم فيه عن صحة الحديث أو ضعفه من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم ليعمل به أو يترك والمتواتر لا يبحث فيه عن رواته بل يجب العمل به من غير بحث لإفادته علم اليقين وغن ورد عن غير الأبرار بل عن الكفار
وأراد بما ذكر أن المتواتر لا يبحث فيه عن رواته وصفاتهم على الوجه الذي يجري في أخبار الآحاد وهذا لا ينافي البحث عن رواته إجمالا من جهة بلوغهم في الكثرة إلى حد يمنع تواطؤهم على الكذب فيه أو حصوله منهم بطريق التفاق والمراد بالاتفاق وقوع الكذب منهم من غير تشاور سواء كان عمدا وكذلك البحث عن القرائن المحتفة به لا سيما إن كان العدد غير كثير جدا ويلحق بالمتواتر في عدم البحث عنه في علم الأثر المستفيض إذا كان أخص من المشهور
ومما يدل على أن المتواتر ليس من مباحث علم الإسناد أنه لا يكون له إلا في النادر جدا إسناد على الوجه المألوف في رواته أخبار الآحارد ولذلك ترى علماء الأصول يقسمون خبر الواحد إلى قسمين مسند ومرسل ولا يتعرضون إلى تقسيم المتواتر إلى ذلك فإن اتفق للمتواتر إسناد لم يبحث في أحوال رجاله البحث الذي يجري في أحوال الأسانيد التي تروي بها الآحاد هذا إذا ثبت تواتره لأن الإسناد الخاص يكون مستغنى عنه وإن كان لا يخلو عن الفائدة
وأما ما ورد بأسانيد كثيرة فإن كانت كثرتها كافية في إثبات التواتر فالأمر ظاهر وإن كانت غير كافية فيه لزمه البحث عن أحوال الرجال ونحوها من سائر قرائن الأحوال ليرفعه إلى درجة المتواتر إن وجد ما يقتضي رفعه إليها أو ينزله إلى درجة المستفيض أو المشهور إن وجد ما يوجب ذلك والمستبصر لا يخفى عليه ما تقتضيه الحال

وقد أشار الحافظ السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة إلى شيء مما كرنا ولنورد عبارته مختصرة قال حديث جابر مرفوعا من آذى ذميا فأنا خصيمه ومن كنت خصيمه خصمته قال الخطيب منكر وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال أربعة أحاديث تدور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأسواق وليس لها أصل من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة ومن آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة ونحركم يوم صومكم وللسائل حق وإن جاء على فرس
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على ابن الصلاح لا يصح هذا الكلام عن أحمد فإنه أخرج منها حديثا في المسند وهو حديث للسائل حق وإن جاء على فرس وقد ورد من حديث علي وابنه الحسين وابن عباس والهرماس بن زياد
أما حديث علي فأخرجه أبو داود وأما حديث الحسين فأخرجه أبو داود وأحمد من رواية يعلى وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن عدي وأما حديث الهرماس فأخرجه الطبراني
وكذلك حديث من آذى ذميا فهو معروف أيضا فروى أبو داود من رواية

صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم دني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو اخذ نه شيئا فأنا حجيجه يوم القيامة وإسناده جيد وإن كان فيه ما لم يسم فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة فقد رويناه في سنن البيهقي الكبرى قال في روايته عن ثلاثين من أبناء الصحابة
وأما الحديثان الآخران فلا أصل هما ا هـ
وبعد أن وصلت إلى هنا ريت لابن حزم عبارة تؤيد ما ذكرناه قال في كتاب الأحكام فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد فهي منقولة الكافة
ثم قال وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطرح على ما ذكرنا لأنه لا دليل على قبوله البتة فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا أجمع عليها قبلت وإذا اختلفت فيها سقطت وهي كل قولة لم يات بتفصيلها باسمها نص
وقال في موضع آخر وإذا ورد حديث مرسل أو في أحد ناقليه ضعيف فوجدنا ذلك الحديث مجمعا على أخذه والقول به علمنا يقينا أنه حديث صحيح

لا شك فيه وأنه منقول نقل الكافة مستغنى عن نقل الآحاد وذلك كالحديث لا وصية لوارث وما أشبه ذلك
المسألة الثامنة قد عرفت أناسا لم يكتفوا بالشروط التي شرطها الجمهور في المتواتر بل زادوا عليها شروطا أخرى فشرط بعضهم وجود الإمام المعصوم في جملة المخبرين وقد نسب ذلك إلى الشيعة قال الإمام الغزالي في المستصفى شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين
وهذا يوجب العلم بإخبار الرسول صلى الله عليه و سلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى إخبار غيره ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على طريق التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وان لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وان لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم
وأنكر الشيعة نسبة هذا القول إليهم ونسبة بعضهم إلى ابن الراوندي قال العلامة الحلي في نهاية الوصول شرط ابن الراوندي وجود المعصوم فيهم ولا عبرة غيره
وقال المحقق بهاء الدين العاملي في الزبدة وشرطه بلوغ رواته في كل طبقة

حدا يؤمن معه تواطؤهم واستنادهم إلى الحس وحصر أقلهم في عدد مجازفة وقول المخالفين باشتراطنا دخول المعصوم افتراء نعم الشرط المرتضى عدم سبق شبهة تؤدي إلى نفيه وشرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وأن تختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد
قال الغزالي وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الإخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وفتنة وواقعة بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر
فإن قيل فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه
قلنا لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التاويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي ان يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في انهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم ا هـ
وقد نسب الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي اشتراط ان لا يكونوا على دين واحد إلى اليهود قال في المحصول وأما الشرائط التي اعتبرها قوم مع أنها غير معتبرة فأربعة
الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط عن المنارة فيما بين الخلق كان إخبارهم مفيدا للعلم

الثاني أن لا يكونوا على دين واحد وهذا الشرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن التهمة إن حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد او على أديان ارتفعت حصل العلم كيف كانوا
الثالث أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم
الرابع شرط ابن الراوندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خبر أهل التواتر ا هـ
وقد نسب لى اليهود شرط آخر وهو ان يكون في المخبرين أهل الذلة والمسكنة قال الحلي في النهاية شرطت اليهود أن يكون مشتملا على اخبار أهل الذلة والمسكنة ليؤمن تواطؤهم على الكذب وهو غلط فإنا نجد العلم حاصلا عقب إخبار الأكابر والمعظمين والشرفاء اكثر من حصوله عقب خبر المساكين وأهل الذلة لترفع أولئك عن رذيلة الكذب لئلا ينثلم شرفهم
وشرط قوم كونهم مسلمين قال في اللمع ومن أصحابنا من اعتبر أن يكون العدد مسلمين ومن الناس من قال لا يجوز أن يكون العدد أقل من اثني عشر ومنهم من قال أقله سبعون ومنهم من قال ثلاث مئة وأكثر وهذا كله خطأ لأن وقوع العلم به لا يختص بشيء مما ذكروه فسقط اعتبار ذلك
وقال في المستصفى شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين وهو فاسد إذ يحصل بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم
وقال في نزهة الخواطر وكشف غوامض السرائر في اختصار روضة الناظر

وجنة المناظر وليس من شرط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا لأن إفضاءه إلى العلم من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه ويمكن ذلك من الكفار كإمكانه من المسلمين ا هـ
وقال الحلي في النهاية وشرط بعضهم الإسلام والعدالة لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق ولهذا اعتبر إجماع المسلمين دون غيرهم ولأنه لو وقع العلم عقيب إخبار الكفار لوقع عند إخبار النصارى مع كثرتهم عن قتل المسيح وصلبه وهو غلط فإن العلم قد يحصل عند خبر الكفار إذا عرف انتفاء الداعي إلى الكذب كما لو اخبر أهل بلد كافرون بقتل ملكهم والإجماع اختص بالمسلمين عند بعضهم لاستفادته من السمع المختص بإجماع المسلمين وإخبار النصارى غير متواتر لقتلهم في المبدأ
واعلم أنه قد وقع في هذا الموضع اضطراب في كلام بعض المتأخرين من إذا بحث في مسألة ذهل عما يتعلق بها مما ذكر في محل آخر فاقتضى الحال التنبيه على أمور
الأمر الأول شرطوا في الراوي أن يكون مسلما فإن كان كافرا لم تقبل روايته هذا إذا كان من غير أهل القبلة وقد صرح كثير من علماء الأصول بانعقاد الإجماع عليه قال في النهاية أجمع العلماء على عدم قبول رواية الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة سواء علم منه الاحتراز عن الكذب أو لا وقال غيره اتفق أئمة الحديث وأصول الفقه على اشتراط إسلام الراوي حال روايته وإن لم يكن مسلما حال تحمله

وقال عضهم لا يقبل خبر الكافر لوجوب التثبت عند خبر المسلم الفاسق فليزم بطريق الأولى عدم اعتبار خبره وقيل إن الفاسق يشمل الكافر وأما قبول شهادته في الوصية مع أن الرواية أضعف من الشهادة فذلك بنص خاص ويبقى العام معتبرا في الباقي
وقد أبان بعضهم سبب رد رواية الكافر بطريق سهل المسلك فقال ليس الإسلام بشرط لثبوت الصدق إذ الكفر لا ينافي الصدق لأن الكافر إذا كان مترهبا عدلا في دينه معتقدا لحرمة الكذب تقع الثقة بخبره كما لو أخبر عن أمر من أمور الدنيا بخلاف الفاسق فإن جراءته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها تزيل الثقة عن خبرة
ولكن اشتراط الإسلام باعتبار أن الكفر يورث تهمة زائدة في خبره تدل على كذبه لأن الكلام في الاخبار التي تثبت بها أحكام الشرع وهم يعادوننا في الدين أشد العداوة فتحملهم المعاداة على السعي في هد أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه وإليه أشار الله تعالى في قوله عز ذكره ( لا يألونكم خبالا ) أي لا يقصرون في الإفساد عليكم
وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان فإنهم كتوا نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ونبوته من كتابهم بعد أخذ الميثاق عليهم بإظهار ذلك فلا يؤمن من ان يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية بل هذا هو الظاهر فلهذا شرطنا الإسلام في الراوي
فتبين بهذا ان رد خبر الكافر ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره وهو المعاداة بمنزلة شهادة الأب لولده فإنها لا تقبل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو الشفقة والميل إلى الولد طبعا ا هـ

والنص الذي أشير إليه آنفا في قبول شهادة غير المسلم في الوصية والسفر وهو قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) وهذا إنما يجري على مذهب من يقول إن ذلك لم ينسخ ولم يؤول الآية بالتأويل الذي ذكره ابن حزم في الأحكام وانحى على صاحبه بالملام قال في فصل أتم به الكلام في الرد على قوم ادعوا تعارض النصوص وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة ومثلوا ذلك بقوله تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) مع قوله عز و جل ( أو آخران من غيركم )
قال علي وهذا لا معنى له ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسوله والحكم بالآراء الفاسدة على ما امرنا به فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها وقوله تعالى ( أو آخران من غيركم ) مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر ففقط فغنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق
ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر بطلانا من قول من قال ( أو آخران من غيركم ) أي من غير قبيلتكم تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا
وليت شعري أي قبيلة خاطب الله عز و جل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل وقد قال تعالى في أول الآية ( يا أيها الذين آمنوا ) وما علمنا الذين آمنوا قبيلة بعينها بل الذين آمنوا عرب وفرس وقبط ونبط وروم وصقلب وخزر وسودان وحبشة وزنج ونوبة وبجاوة وبربر وهند وسند وترك وديلم وكرد

فثبت بضروة لا مجال للشك فيها أن غير الذين آمنوا هم الكفار ولا ينكر ذلك إلا من سفه نفسه وأنكر عقله وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائل من غيركم من غير قبيلتكم من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره الذي ليس عليه من نور الحق أثر
الأمر الثاني قد توهم بعض الناس أن الذين صرحوا في كتبهم بعدم قبول رواية الكافر هم الذين زادوا في شروط التواتر الإسلام إما وحده أو مقرونا بالعدالة وليس المر كذلك فإن كثيرا ممن صرح بالأول لم يزد في شروط التواتر ذلك وبعضهم ذكره نقلا عن غيره ورد عليه على ان القائلين بهذا الشرط قليلون جدا وتوهم بعضهم أن بين العبارتين تناقضا وليس المر كذلك
وقد أحببت إزالة الإشكال وإن كنت قد التزمت في هذا الكتاب أن أترك إزالة كل إشكال يعرض في مبحث من المباحث إلى المطالعين بعد أن يترووا فيما ذكرناه فيه تمرينا لهم على استعمال الفكر فنقول
إن عدم قبول رواية غير المسلم فيما يتعلق بأمر الدين هو مما لم يختلف فيه غير انه إنما يتعين فيما ورد على طريق الآحاد وذلك لأن خبر الآحاد عند من يقبله يشترط فيه أن يكون الراوي مسلما عدلا ضباطا فإن كان فإن كان مسلما غير عدل لا تقبل روايته مع اعتقاده في الدين وجزمه بان سعادته منوطة به فلأن لا تقبل رواية غير المسلم الذي لا يعتقد في الدين ولا يرى أن سعادته منوطة به أولى وهذا ظاهر بين وأما من لا يقول بخبر الآحاد وإن كان الراوي حائزا لأعلى صفات القبول لاحتمال أن يعرض له السهو والغلط ونحو ذلك فالأمر عندهم أظهر وأبين

وهذه المسألة المفروضة تتصور على ثلاثة أوجه الوجه الأول أن يكون ما رواه قد رواه غيره من المسلمين على الوجه الذي رواه هو به الوجه الثاني أن يكون ما رواه قد رواه غيره من المسلمين على غير الوجه الذي رواه هو به بحيث يقع التعارض بين الروايتين الوجه الثالث أن يكون ما وراه لم يروه غيره من المسلمين
وهذا ضربان أحدهما أن يكون فيه ما يخالف ما تقرر عندهم من القواعد والأصول والثاني أن لا يكون فيه شيء من ذلك
وقد تعرض لطرف من هذه المسألة المفروضة بعض العلماء ففي أصول البردوي قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء إنه لا يعمل بخبره ويتوضأ به فإن تيمم وأراق الماء فهو أحب إلي وفي الفاسق جعل الاحتياط أصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن تكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم
قال في الشرح قوله ويجب أن يكون كذلك أي يجب أن يكون شأن الكافر في رواية الحديث كشأنه في الإخبار عن نجاسة الماء فيما يستحب من الاحتياط أي من الأخذ به يعني لا يقبل خبره في الدين ولا يكون حجة كما لو يقبل في نجاسة الماء إلا ان الاحتياط لو كان في العمل به يستحب الأخذ به من غير وجوب كما تستحب الإراقة ثم التيمم هناك
ويجوز أن يكون معناه ويجب أن يكون الفرق ثابتا بين خبر الكافر والفاسق في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط أيضا وإن لم يكن خبرهما حجة كثبوته في إخبارهما عن نجاسة الماء فإذا روى الفاسق حديثا لا يكون حجة أصلا ولكن

لو كان الاحتياط في الأخذ به يكون الاستحباب في العمل به فوق الاستحباب في العمل بخبر الكافر وعلى هذا الوجه يدل سياق الكلام
ثم قال وإنما قال يجب أن يكون كذلك ها هنا وفيما تقدم لأن الرواية غير محفوظة عن السلف في نقل هؤلاء الحديث
وأما ما يرويه غير المسلمين على طريق التواتر فهو مقبول مطلقا سواء كان ذلك مما يتعلق أو بغير الدين وما يتعلق بالدين لا فرق فيه بين ما يتعلق بديننا أو بدينهم إن كان لهم دين أو بدين آخر فإذا رووا شيأ مما يتعلق بديننا على طريق التواتر وقد عرفت شروطه التي ذكرها الجمهور فلا بد أن يكون مطابقا للواقع ولا بد مع ذلك أن يكون مرويا عندنا على طريق التواتر فإنه لم تعن أمة من الأمم بأمر دينها مثل نا عني به المسلمون وهذا أمر لا يمتري فيه من له أدنى زوال ريبة بأقل عناية
وعلى هذا يكون تواتره عندهم مؤكدا لتواتره عندنا ويكون هذا النوع من أعلى المتواترات ومن خبر المر بنفسه أو نظر في كتب أئمة المتكلمين تبين له أن المتواترات وإن اشتركت في إفادة العلم لكن بعضها في الدرج العليا وبعضها في الدرجة الوسطى وبعضها في الدنيا
وقد أشار ابن حزم إلى هذا النوع في المقالة التي ذكر فيها وجوه النقل عند المسلمين فقال ونحن نذكر إن شاء الله تعالى وجوه النقل التي عند المسلمين لكتابهم ودينهم ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل عيانا فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم فنقول وبالله التوفيق

إن نقل المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا جيلا لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز و جل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم اخذ ع أولئك حتى بلغ إلينا ومن ذلك الصلوات الخمس
وقد كرر قوله لا يختلف في ذلك مؤمن ولا كافر في كثير من الأشياء إشارة إلى أنه من أعلى المتواترات حتى شارك فيها غير المسلمين المسلمين فاعرف قدر العبارات وما تضمنه من الإشارات فإن قلت ما الذي دعا من زاد في شروط التواتر إسلام المخبرين إلى هذه الزيادة قلت دعاه إلى ذلك أنه أوردت عليه أخبار غير مطابقة للواقع ومع ذلك أدعى المسلمون أنها متواترة فظن أن العلة فيها جاءت من كون رواتها غير مسلمين فزاد هذا الشرط تخلصا من الإشكال وكان حقه أن يفعل كما فعل الجمهور فإنهم دققوا النظر فيها فتبين لهم أنها غير مستوفية لشرط التواتر المشهورة فارتفع الإشكال من أصله غير أنه كان ضعيفا في علم الكلام
وقد نشأ من هذه الزيادة التي زادها إشكال آخر وهو انسداد باب التواتر في أكثر المتواترات التي لا تحصى وذلك في الأمور التي كانت قبل ظهور الإسلام ولم تذكر في الكتاب العزيز والأمور التي ظهرت بعده وكان المتأولون لنقلها أولا غير المسلمين مع ان الخبر المتواتر من أهم أركان العلم والمعرفة والحاجة في جل الأحوال ملجئة إليه
وقد رأيت أن أورد عبارات شتى لا تخلو عن فائدة فيما نحن فيه قال صدر

الشريعة في كتاب التوضيح الخبر لا يخلو من أن تكون رواته في كل عهد قوما يحصى عددهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم أو يصير كذلك بعد القرن الأول أو لا يصير بل رواته آحاد والأول متواتر والثاني مشهور والثالث خبر الواحد
قال المحقق سعد الدين التفتازاني في التلويح قوله ولا يمكن تواطؤهم أي توافقهم على الكذب حتى لو اخبر جمع غير محصورين بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا
وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب وليس بشرط في التواتر حتى لو أخبر جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم حصل لنا اليقين
وأما مثل خبر اليهود بقتل عيسى عليه السلام وتأبيد دين موسى عليه السلام فلا نسلم تواتره وحصول شرائطه في كل عهد ثم المتواتر لا بد أن يكون مستندا إلى الحس سمعا أو غيره حتى لو اتفق أهل إقليم على مسألة عقلية لم يحصل لنا اليقين حتى يقوم البرهان
قال المحقق حن الفناري في حاشيته عليه قوله عند المحققين تفسير للكثرة إيماء إلى أن جعل المصنف الكثرة علة لعدم إمكان التواطئ ليس كما ينبغي
قوله وليس بشرط في التواتر قيل الكلام في تواتر خبر الرسول والعدالة

وتباين الأماكن شرطان فيه لا في مطلق التواتر فلا تقريب لما ذكره والجواب منع القول بالفصل على المختار
هذا وفي حصوله اليقين بإخبار جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم منع ظاهر لجواز اتفاق تلك البلدة على ذلك الكلام لغرض من الأغراض مثل تغرير المسلمين به لئلا يراعوا الحزم عند الجهاد معهم أو لئلا يتحفظوا على أنفسهم منهم فالأولى أن يقتصر على نفي الاشتراط المذكور
قوله فلا نسلم تواتره فإن قتل عيسى عليه السلام نقل عن جماعة من اليهود دخلوا البيت الذي كان فيه وكانوا سبعة وقد روي انهم كانوا لا يعرفون المسيح وغنما جعلوا لرجل جعلا فدلهم على شخص في بيت اجتمعوا عليه وقتلوه وزعموا انهم قتلوا عيسى عليه السلام وأشاعوا الخبر وبمثله لا يحصل التواتر
ومما يتعلق بما نحن فيه ما ذكره علماء الأصول في مسألة هل كان عليه السلام متعبدا بشرع من قبله وقد اختلفوا في ذلك وقد أوضح الفخر الرازي أمرها في المحصول ولنورد لك ما تعلق بغرضنا منه قال القسم الثالث في أن الرسول عليه الصلاة و السلام هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان الأول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان الاول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته قوم ونفاه آخرون وتوقف فيه ثالث
احتج المنكرون بأنه لو كان تعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستيفاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لاشتهر ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم
واحتج المثبتون بأن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها والجواب أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه ولو سلمنا ذلك لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق يوجب العلم أو الظن الغالب وهذ هو المراد من زمان الفترة
البحث الثاني في حاله بعد النبوة قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنه

لم يكن متعبدا بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى
واعلم أن من قال كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به أن الله تعالى يوحي إليه مثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله أو يريد به أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فإن قالوا بالأول فإما أن يقولوا به في كل شرعة أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا بخلاف شرع من قبلنا في كثير من الأمور والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه متعبد بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية ولم يكن عليه السلام تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه
وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه الأول لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه أن يرجع في أحكام تلك الحوادث إلى شرعه وأن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه لم يفعل ذلك ولو فعله لاشتهر
فإن قيل إن الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه عليه الصلاة و السلام علم في تلك الصور أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها إلى نزول الوحي أو لنه عليه الصلاة و السلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع فانتظر الوحي أو ان أحكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا كفارا ورواية الكفار غير مقبولة

فالجواب قوله إنما لم يرجع إليها لأنه علم انه غير متعبد فيها بشرع من قبله قلنا فلما لم يرجع في شيء من الوقائع إليهم وجب ان يكون ذاك علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله
وقوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب الشديد والبحث الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك الطلب والبحث
وقوله لك الحكم إما أن يكون تواترا إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة و السلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية دلالتها على الحكام
ثم تعرض لغير ذلك من أدلة المثبتين وأجاب عنها وكان من المنكرين لتعبده عليه الصلاة و السلام بشرع من قبله سواء كان قبل البعثة او بعدها فارجع إليه إن شئت
ونقل ابن القشيري عن بعضهم أنه عليه الصلاة و السلام كان قبل البعثة متعبدا بشريعة العقل قال وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة وذكر الحلي في النهاية أن بعض الإمامية ذهب إلى انه كان متعبدا بما يلهمه الله تعالى إياه وأقوى أقوال من ذهب إلى انه كان متعبدا بشرع معين قول من ذهب إلى انه شرع إبراهيم عليه السلام
قال الإمام المازري هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع البتة ولا يبني عليها حكم في الشريعة
وأما المسألة الثانية وهي هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا فهي من أهم مسائل الأصول وقد قرب بعضهم أمرها فقال

إن ما لم يعلم من شرائع من قبلنا إلا من جهة المنتمين إليها فهذا لا بحث فيه لاختلاط ما صح منه بما لم يصح على وجه يحار فيه الجهبذ النحرير
وأما ما علم من غير جهتهم وهو ما ذكر منها في الكتاب والسنة فمنه ما دل الدليل على الخذ به وهذا لا خلاف فيه ومنه ما دل الدليل على نسخه في شرعنا وهذا أيضا كذلك ومنه ما لم يدل الدليل على الأخذ به ولا على نسخه فهذا هو الذي اختلف فيه
فقال بعضهم هو شرع لنا وقال بعضهم ليس بشرع لنا وممن قال هو شرع لنا مالك وجمهور أصحابه وأصحاب أبي حنيفة والشافعي قال بان السمعاني قد اومأ إليه الشافعي في بعض كتبه وقال القرطبي ذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية وقال القاضي عبد الوهاب إنه الذي تقتضيه أصول مالك
ونقل ذلك عن محمد بن الحسن قال البرذوي في أصوله قال بعض العلماء تلزمنا شرائع من قبلنا حتى يقوم الدليل على النسخ بمنزلة شرائعنا وقال بعضهم لا تلزمنا حتى يقوم الدليل وقال بعضهم تلزمنا على انها شريعتنا
والصحيح عندنا أن ما قص الله تعالى منها علينا من غير إنكار أو قصة رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير إنكار فإنه يلزمنا على أنه شريعة رسولنا عليه الصلاة و السلام
ثم قال وهو المختار عندنا من الأقوال بهذا الشرط الذي ذكرنا قال الله تبارك وتعالى ( ملة أبيكم إبراهيم ) وقال ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) فعلى هذا الأصل يجري هذا وقد احتج محمد في تصحيح المهايأة والقسمة بقول الله تعالى ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ) وقال ( لها شرب

ولكم شرب يوم معلوم ) فاحتج بهذا النص لإثبات الحكم به في غير المنصوص عليه بما هو نظيره فثبت أن المذهب هو القول الذي اخترناه ا هـ
المسألة التاسعة
للمنكرين لإفادة المتواتر علم اليقين شبه منها أنه يجوز أن يخبرنا جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بأمر كحياة زيد ويخبرنا جماعة أخرى مثلهم بنقيض خبرهم كموت زيد فلو أفاد المتواتر علم اليقين للزم حصول العلم بالنقيضين وهو محال
وأجاب الجمهور بأن هذا غير ممكن ولا بد أن يكون أحد الخبرين غير مستوف لشروط التواتر
ومنها أن كثيرا من الفرق التي لا يحصى عددها تخبر بأمور وهي جازمة وغيرها ينكرها ومن ذلك صلب المسيح عليه السلام فإن اليهود والنصارى يجزمون بوقوعه والمسلمون ينكرون ذلك وينسبون لهم الوهم
والجواب أن المسلمين لم يسلموا لا لاعتقادهم أن المتواتر لا يفيد اليقين بل لأنه تبين لهم أن ذلك الخبر لم يستوف الشروط اللازمة في التواتر
وقد هول المخالفون تهويلا عظيما وزعموا ان المسلمين أنكروا أعظم الأمور المتواترة تواترا فإن النصارى واليهود وهما أمتان عظيمتان قد طبقتا مشارق الأرض ومغاربها وهم يخبرون بصلب المسيح والإنجيل يصرح بذلك فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات التواتر فأي خبر بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه
وقد أجاب عن ذلك علماء الكلام والأصول غير أن كثيرا منهم اقتصر على الجواب المجمل وهو لا يشفي غليل من قويت عنده هذه الشبهة والذين أجابوا

بجواب مفصل بنى أكثرهم كلامه على مجرد الاحتمال وهو وإن كان مجديا في مقام الجدال غير انه أصل الإشكال وسبب ذلك انهم لم يطلعوا على ما ورد في الإنجيل الذي هو العمدة في انتشلر هذا الخبر ولو اطلعوا عليه لرأوا الخطب أسهل مما ظنوه
وقد تصدى ابن حزم للجواب عن هذه المسالة وهو من المطلعين على كتب أهل الكتاب فأحببنا نقل عبارته قال في كتاب الملل والنحل ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ةومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين ان قال قائلهم قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل وجاء القرآن بأنه لم يقتل ولم يصلب فقولوا لنا كيف كان هذا فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الهواء والديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وكتابه وشرائعه
ثم قال في الجواب عنه إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافة ولا صح بالخبر قط لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم وعدم التقائهم وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة أو رجوع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادى على سنن من تواطؤوا عليه فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه
فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ويضطر على صحته إلا ببرهان
فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة

صلبه فإن هناك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل
والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا خوف العامة وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح وانه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار وأنه أنزل إثر ذلك وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخاري ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب ولا موقوفا لذلك وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا أن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه بل كانت واقفة على بعد تنظر
هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة بل بخبر يشهد ظاهره على انه مكتوم تواطأ عليه وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غيبا عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين و أن شمعون الصفا غرر ودخل دار قيافا الكاهن أيضا بضوء النار فقيل له أنت من أصحابه فانتفى وجحد وخرج هاربا عن الدار
فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق فكيف أن ينقله كافة وهذا معنى قوله تعالى ( ولكن شبه لهم ) إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤ عليه هم شبهوا على من قلدهم فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة
ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس وفي حيث هو

فلعله نائم أو مشبه على حواسه وفي هذا خروج إلى السخف وقول السوفسطائية والحماقة
وقد شاهدنا نحن مثل ذلك وذلك أننا أندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن وقد شاهد غسله شيخان جليلان حاكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة من عظماء البلد ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ثم لم يلبث إلا شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا وبويع عد ذلك بالخلافة ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بن يديه ورأيته وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام
ثم قال وأما قوله تعالى ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) فإنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود إنه عليه السلام قتل وصلب فهؤلاء شبه لهم القول أي أدخلوا في شبه منه وكان المشبهون لم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المعون أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك وغنما أخذوا من أمنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة التي شبه الخبر لها ا هـ
قال العلامة التقي في الجواب الصحيح وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح عليه السلام بل

شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود
فبعض الناس يقولون إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله ( ولكن شبه لهم ) عن أولئك ومن قال بالأول جعل الضمير في شبه لهم عن السامعين لخبر أولئك
فإذا جاز ان يغلطوا في هذا ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلوه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله يجب اتباعه سواء صلب أو لم يصلب والحواريون مصدقون فيما ينقلونه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان ذلك الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر ا هـ
والضمائر في هذه الآية وفيما قبلها عائدة إلى اليهود قال تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وصدهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما )
قال المفسرون في قوله ( فبما نقضهم ميثاقهم ) ما زائدة والباء للسببية وهي متعلقة محذوف تقديره فعلنا بهم ما فعلنا وأما شبه فهو مسند إلى الجار والمجرور وهو ( لهم ) وهو الظاهر وقال بعضهم ( شبه لهم ) أي مثل لهم من حسبوه إياه وفي قوله ( وما قتلوه يقينا ) أي قتلا يقينا أو متيقنين وقال بعضهم المراد أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا فيه فإنهم كانوا في شك لعدم إيقانهم بقتله إذ لم تكن معهم حجة يسكنون إليها وقال بعضهم المراد وما علموه يقينا وهو من قولهم الشيء علما إذا عرفته معرفة تامة وهو بعيد

ورأى بعض الدارسين لكتب أهل الكتاب بناء على ما تراءى له من قرائن الأحوال أن الذين صمموا على إهلاك المسيح من رؤساء اليهود لما لم يجدوه ويئسوا من عودة إليهم عندوا إلى رجل آخر موهمين أنه هو المسيح فصلبوه إرهابا لأتباعه ولمن يخاف أن يكون عنده ميل إلى اتباعه وضعوا حراسا على القبر خشية أن ينبش فتظهر حقيقة الأمر ثم رأوا أن الحزم يقضي عليهم بنقله منه سرا إلى حيث لا يهتدي إليه ففعلوا وخشية أن يفتتن الناس بعدم وجوده فيه رشوا الحراس بمال جم ليشيعوا أن تلاميذه أتوا في جنح الظلام فأخذوه من القبر وهو نائم
وقال بعض المفسرين إن الذي صلب كان رجلا ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال انا أدلكم عليه وقد كان عيسى استتر فدخل الرجل بيت عيسى ورفع الله عيسى وألقى شبهه على المنافق فقتلوه وصلبوه وه يظنون أنه عيسى عليه السلام وهذا القول على كل ال أقرب من قول بعضهم إن المسيح عليه السلام لما أجمعت اليهود على قتله وأخبره الله سبحانه بأنه سيرفعه إلى السماء قال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهه فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم وقال أنا فألقى الله عليه شبهه فأخذ وقتل وصلب
والمنافق المذكور هو يهو ذا الأسخريوطي وذكر في الإنجيل أنه كان أحد التلاميذ الاثنى عشر الذين اختارهم المسيح لبث دعوته وأعطاهم قوة على إخراج الشياطين وشفاء جميع الأمراض ثم لما بلغه أن رؤساء اليهود قد صمموا على القبض على المسيح وإهلاكه ذهب إليهم وقال لهم أنا أسلمه إليكم فماذا تعطوني على ذلك فأعطوه ثلاثين من الفضة كل واحد منها تساوي قيمة درهما أو درهمين أو نحو ذلك فرضي بها وصار يترقب فرصة لإنجاز ما وعدهم به
ففي ليلة من الليالي ذهب إليهم وقال إن الفرصة قد أمكنت فأرسلوا معه جمعا كبيرا معهم سيوف وعصي وهذا الجمع مؤلف من اناس من خدمة رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وأناس من جند الروم فذهب بهم إلى سفح جبل الزيتون وكان المسيح في بستان هناك وقال لهم إذا وصلت إليه أقبله فالذي

أقبله هو المسيح فاقبضوا عليه وإنما جعل لهم عامة لأن كثيرين منهم كانوا لا يعرفونه فلما دنا منه سلم عليه ثم تقدم فعانقه فقال له المسيح يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان
ثم خرج إلى القوم وقال لهم أنا هو فتقهقروا ناكصين على أعقابهم وسقطوا على الأرض ثم قال لهم المسيح من تطلبون فقالوا نطلب عيسى الناصري فقال لهم قد قلت لكم إني أنا هو فإن كنتم تطلبونني فعوا هؤلاء يهبون وكان مع بطرس الذي يقال له سمعان الصفا سيف فانتضاه وضرب به عبد عظيم الكهنة فأخذ أذنه اليمنى فقال له المسيح اكفف ولمس أذن العبد فبرئت فحينئذ قيض الجماعة عليه وأوثقوه وذهبوا إلى حيث أرادوا
وإن أردت معرفة تتمة المسألة فارجع إلى الأناجيل الأربعة وإن كان فيها من الاضطراب في سوق هذه القضية ما لا مزيد عليه والأولى الرجوع إليها مع مراجعة ما قاله مفسروها وكنت أحببت أن أوردها بتمامها على وجه يرتفع به اللبس إليه لتسكن النفس غير أن ذلك يقتضي بسطا زائدا لا يسعد عليه هذا الموضع
ولنرجع إلى امر يهوذا فنقول ذكر في إنجيل متى أنه يهوذا لما رأى المسيح قد دفن ندم وذهب إلى رؤساء الكهنة وإلى المشايخ وأعاد لهم ما أخذ وقال لهم إني أخطأت بتسليمي إنسانا برا فقالوا ماذا علينا أنت أخبر وطرح ما أخذه في الهيكل وذهب فخنق نفسه وأما ما أعاده من المال فقد اشترى الرؤساء به حقل الفخار وجعلوه مقبرة للغرباء
قال مفسروه إن يهوذا لما رأى اليهود قد حكموا عل المسيح بالهلاك ولم يكن يظن أن الأمر يصل إلى هذا الحد ذهب إلى الرؤساء وقال لهم ما قال وأعاد لهم ما أخذه من المال راجيا بذلك أن يطلقوه فلما لم يجيبوه إلى ما سأل خنق نفسه

هذا ولما ارتاب بعض علمائنا في أمر يهوذا تراءى لهم أنه هو الذي ألي عليه شبه المسيح فأخذ وصلب ولقي جزاء عمله غير أن الذين كانوا يتلقفون أخبار المسيح عليه السلام من كل فم لما لم يقفوا له على عين ولا أثر ظنوا انه هلك أو اهلك نفسه فلفقوا هذا القول بناء على ما وقع في نفوسهم ومثل ذلك لا يحصى وهذا القول أقوى الأقوال التي قالها من ذهب إلى ان المصلوب كان يشبه المسيح عليه السلام بحيث إن من رآه وكان يعرفه من قبل قال إنه هو أو كأنه هو
والقول بالشبه المذكور هو المشهور عند الجمهور وقد أنكره عليهم الجمهور الأمم من غير المسلمين وقد وافقهم على الإنكار ابن حزم مع أن جميع أرباب الملل يقولون بجواز خرق العادة وهذا من أقرب الأمور جوازا في العقل لا سيما إن قضت الحكمة بوقوعه كالمسألة التي نحن بصددها وليس في ذلك ما يوجب إبطال الحقائق
على انه تقرر في علم الكلام أن الحواس قد تغلط في بعض الأحيان وأن ذلك لا يرفع الاطمئنان إلى ما أدركته في سائر الأحيان ومثل ذلك العقل فأي محذور يحصل أن قيل وعلى ذلك إن المسيح عليه السلام لما أراد اليهود إهلاكه لأنه كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على اتباع الحق والسلوك في مهج الصدق ألقى الله شبهه على رجل مارق منافق مستحق للهلاك فأخذ وصلب وهو بذلك حري ونجا من غوائلهم ذلك البر البري
وذكر مفسرو الأناجيل أن المسيح عليه السلام لما أراد الجماعة القبض عليه أظهر ثلاث آيات
الأولى إمساكه أبصارهم حتى لم يعرفوه مع أن ذلك الخائن جعل لمعرفته علامة وكان كثير منهم يعرفه ويؤيد ذلك أنه لما قال لهم من تطلبون ل يقولوا إننا نطلبك بل قالوا عيسى الناصري وذلك لعدم معرفتهم له

الثانية وقوعهم على ظهورهم إلى الأرض بمجرد قوله أنا هو
الثالثة إرجاعه أذن العبد التي قطعها بطرس فانظر كيف أثبتوا أخذ المسيح بأبصار القوم حتى جهله من كان يعرفه فلو أراد المسيح حينئذ أن يتركهم وشأنهم ويذهب حيث شاء لأمكن
فإن قلت لعلع خاف أن يلقوا القبض على تلامذته ظنا أنه بينهم قلت لا خوف في ذلك فإنه تظهر لهم في أقرب مدة حقيقة الحال فيطلقونهم وهم لا مأرب لهم فيما عداه إلا أن نقول لعل اللجاج والعناد يحملهم على دعوى أنه بينهم فيعمدوا إلى أحدهم فيهلكوه لئلا يقال إنه صعد إلى السماء أو نجا منهم بقوة ربانية
وذكروا أيضا أن المسيح أخذ بأبصار اليهود فلم يروه قبل هذه المرة وذلك أنه كان ذات يوم يمشي في الهيكل في رواق سليمان فأحدقت به اليهود وقالوا له حتى متى تعذب نفوسنا فإن كنت المسيح فقل لنا علانية فأجابهم بما أثار غضبهم فتناولوا حجارة ليرجموه فلم يستطيعوا ثم جرت بينهم محاورة أخرى أفضت إلى العزم في إمساكه فخرج من بين أيديهم قالوا فخروجه من بين أيديهم إنما أمكن لكونه حجب أبصارهم فلم يروه
فإن قلت إن المسيح عليه السلام لعله أراد أن ينال على أيديهم الشهادة لتكون له الحسنى وزيادة قلنا لا يسوغ ذلك على هذه الصفة قال تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وهذا من الأمور المحكمة التي اتفقت فيها الشرائع على اختلافها وقد ذكر في الأناجيل أن المسيح عليه السلام كان في الليلة التي قصده فيها القوم يتضرع إلى الله تعالى كثيرا ويسأله أن ينجيه من مكايد أعدائه وكان شديد الحزن والاكتئاب وهذا ينافي أن يكون مريدا للاستسلام لهم
هذا وإن طريقة ابن حزم طريقة معقولة وهي وإن كانت بعيدة في نظر

قوم فهي قريبة في نظر آخرين ممن خبروا أحوال الناس ودققوا النظر في أمر الحوادث وأكثروا من النظر في التاريخ وبحثوا عن أسباب المسائل وعللها ليقفوا على حقائقها ودقائقها
وهنا أمر ينبغي التنبه له وهو أن اليهود في ذلك العصر لم يكونوا مستبدين بأمرهم بل كانوا تحت حكم ملوك الروم وكان ملك الروم حينئذ طيباريوس وهو الذي بنيت في عهده مدينة طبرية ونسبت إليه وكان الوالي عليهم من قبله بيلاطوس قال سعيد بن البطريق في نظم الجوهر وملك طيباريوس قيصر برومية وللمسيح خمس عشرة سنة وكان لقيصر هذا صديق يقال له بلاطس من قرية على شط البنطس ولذلك يسمى بلاطس البنطي فولاه على أرض يهوذا
قال وفي خمس عشرة سنة من ملك طيباريوس هذا ظهر يحيى بن زكريا المعمداني فعمد اليهود في الأردن ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة ثم قال وكتب بلاطس إلى طيباريوس الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعله تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية فلم يتابعه أصحابه على ذلك وملك اثنين وعشرين سنة وستة أشهر
وبيلاطوس المذكور هو الذي ادعى رؤوس اليهود عنده أن المسيح عليه السلام كان يضل شعبهم ويدعي بأنه هو المسيح ملك اليهود وأنه كان يمنع الناس من أداء الجزية لقيصر وطلبوا منه أن يصلبه وإنما لم يتولوا هم المر بأنفسهم لأسباب
الأول انه لم يكن يسوغ أن يقتلوا أحدا ممن حكموا عليه بالقتل دون موافقة الروم وما وقع منهم مرارا من القيام على المسيح وإرادة رجمه فإنما ذلك من قبيل ما يحصل أحيانا من حكام الرعايا حين اشتداد غضبها وكثيرا ما تتغاضى الحكام عن ذلك إذا لم تخش ضررا منه
الثاني أنهم كانوا يخافون من الشعب فإن كثيرين منهم كانوا يميلون إلى

المسيح عليه السلام فإذا تولى الحاكم ذلك ووقع من الشعب فتن أمكنه تسكينها بواسطة الجند
الثالث أن ما ادعوه على المسيح عليه السلام من أنه كان يفتري على الله كذبا ويضل الناس لو صح وثبت فإنه يقتضي بموجب شرعهم الرجم لا الصلب وهم يريدون أن يصلب لاعتقادهم أن الصلب أدعى لزجر الناس عن اتباعه وفيه شفاء غليلهم ما ليس في غيره من انواع القتل
وقد ذكر في الأناجيل أن بيلاطوس المذكور لما سلمه رؤساء اليهود المسيح عليه السلام وطلبوا منه إهلاكه سأله عما اتهموه له فتبين له افتراؤهم وعرف أنهم إنما أسلموا حسدا وبغيا وتعجب جدا وقال لهم إني لم أجد له علة توجب هلاكه حرص على إطلاقه غير انهم أصروا على ما طلبوا منه وحرضوا جمهور الناس على ذلك فاحب إرضاءهم فأمر الشرط بان يذهبوا به ويجروا ما يرضي أولئك القوم
وقد اختلف المفسرون في أمر بيلاطوس فقال بعضهم إنه كان في الباطن يميل إلى قتل المسيح ولذلك بادر إلى إمضائه مع أن في يده إطلاقه حالا فضلا عن إبقائه في السجن إلى أن يتروى في أمره مدة ويجري بعد ذلك ما يقتضيه الحال ويدل على ذلك قوله للمسيح عليه السلام لما سأله فلم يجبه مالك لا تكلمني ألا تعلم أن لي سلطانا على ان أطلقك ولي سلطان على أن أصلبك
وقال أكثرهم لم يكن بيلاطوس يميل إلى الباطن إلى قتل المسيح عليه السلام ويدل على ذلك أشياء
الأول ما ظهر منه من تبرئة المسيح وذبه عنه بقدر ما استطاع
الثاني رؤيا زوجته فإنها أرسلت إليه وهو في مجلس الحكم والمسيح عنده مع القائمين عليه تقول إياك وذلك الصديق لأني رأيت في الحلم من أجله أمورا مزعجة كثيرا وقد اختلفوا في هذا الحلم فقال بعضهم هو من الشيطان ليخلص المسيح فيبقى العالم بغير فداء وقال بعضهم هو من ملك ليشهد الرجال والنساء بكمال المسيح

الثالث خوف ثورة الشعب فإن كثيرا منهم كانوا يميلون إلى المسيح عليه السلام والولاة أبعد الناس عن إثارة الشعب بدون عابث قوي لذلك وهذا الوالي كان من عباد الأوثان ولم يكن لليهود عنده من حيث الدين شأن ولذلك كان القائمون عليه عازمين في أول الأمر على ان يمسكوه ويقتلوه غيلة وأن يكون ذلك في غير العيد لكثرة اجتماع الناس فيه فلما جاءهم يهوذا الخائن غيروا رأيهم واعتقدوا أن الفرصة قد ساعدت وعزموا على ان يكون ذلك على يد الحاكم لأنه أقرب إلى السلامة من الشعب إن ثار ففعلوا ما فعلوا
الرابع ما ذكر عنه من أنه كتب من بعد إلى طيباريوس ملك الروم بخبر المسيح وما وقع له من الآيات وبخبر تلاميذه وما يقع على أيديهم من العجائب غير أن كثيرا منهم توقف في صحة هذا الخبر وقال إنه كان عزم على ذلك غير انه خشي ان يعود عليه ذلك بالضرر حيث قتل المسيح بغير حق
وقد ورد على هذا الفريق إشكال وهو أن يقال إذا كان هذا الوالي يميل إلى إطلاق المسيح والبواعث على ذلك كثيرة فلم لم يطلقه
وقد أجابوا عن ذلك بأن بيلاطوس كان عزم على إطلاقه فصاح اليهود به وقالوا إن تطلق هذا فما أنت بمحب لقيصر لأن من يجعل نفسه ملكا يكون عدوا لقيصر فارتاع بيلاطوس وخشي بطش قيصر إن بلغه ذلك فأسلم المسيح إلى ما أسلمه إليه
وفي هذا الجواب ضعف لأنه يمكنه حينئذ أن يضع المسيح في السجن ويكتب إليه بحقيقة الحال وينتظر ما يأمر به فيجري عليه
وقال بعضهم فعل ما فعل تخلصا من شغب الشعب فإن الرؤساء حرضوهم على الاجتماع عند دار الحكم وأن يلحوا في طلب إهلاكه فكان كلما قال لهم أي شر صنع هذا يزدادون صياحا قائلين ليصلب فلما رأى أن ذلك لا يفيد شيئا بل تزداد الجلبة كلما حاولهم غسل يديه أمامهم وقال أنا بريء من دم هذا

الصديق أنتم أخبر فصاحوا كلهم قائلين دمه علينا وعلى أولادنا وأسلمه إلى الجند لينفذوا الحكم عليه
قال بعض القسيسين فإن قيل يجوز للوالي أن يخضع لرأي الشعب كله في مثل هذا الأمر فالجواب لا بل يجب على الحاكم أن يحتمل ألف ميتة ولا يحيد عن منهج العدل وإذا جمع بين العلتين يكون الجواب أقوى
واعلم أن مسألة الصلب إنما أهمت النصارى مع ضعف مأخذها عندهم لبنائهم أكثر أمور دينهم عليها ونسبتهم أكثر أسراره إليها حتى إنهم ينكرون على منكرها أكثر مما ينكرون على منكر التثليث
وقد بقي في مباحث المتواتر مسائل أخرى مهمة تركناها لأنها مما يهتدي إليها اللبيب بنفسه إذا أمعن فيها النظر


الفصل السادس
في أقسام الحديث قبل الخوض في ذلك ينبغي الوقوف على مسألتين
المسألة الأولى أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر لاستغنائه بالتواتر عن يراد سند له حتى إنه إذا اتفق له سند لم يبحث عن أحوال رواته لما سبق بيانه في المسألة السابعة من الفصل الخامس
فقول المحدثين إن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف يريدون به الحديث المروي من طريق الآحاد وأما الحديث المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة
وقد ألحق بعضهم المستفيض بالمتواتر فجعله أيضا خارجا عن مورد القسمة وقد نقلنا فيما مضى أقوالا في حد المستفيض وقد وقفت الآن على أقوال أخر ذكرها بعض من ألف في القواعد الفقهية فأحببت إيراد خلاصة ذلك قال
قد اقتضى كلام قوم أن المستفيض خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب وكلام قوم أنه خبر جمع يفيد ظنا فوق الظن المجرد وقال بعضهم إنه خبر جمع كثير يقع العلم أو الظن بقولهم
وقال بعض الفقهاء لا تقبل الشهادة بالاستفاضة إلا في مسائل منها النسب والوقف وولاية الوالي وعزله وقال بعضهم إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس لم يحتج إلى البحث والسؤال عنه

وينبغي التنبه لأمر وهو أنه لا يجوز الجرح بمجرد الشيوع والانتشار بل لا بد مع ذلك من حصول العلم فإذا لم يحصل العلم لم يجز الاعتماد عليه وهتك أعراض الناس به وقد صرح بذلك الغزالي وهو الحق لأنه مما يمكن الوقوف عليه وإذا وقع لم يحصل فيه لبس فلا يقع فيه بما لا يفيد العلم من الاستفاضة والاستفاضة تحصل بأقل جموع الكثرة وهو أحد عشر فمن زعم استفاض بدونها فهو ذاهل
وشرط العمل بالاستفاضة أن لا عارض باستفاضة مثلها فإن عورضت بطل حكمها لأنا إن شرطنا في الاستفاضة العلم فالمعارضة تدل على انه لا استفاضة من الجانبين لأن القاطعين لا يتعارضان وإن اكتفينا بالظن فليس أحد الظنين بأولى من مقابله
واعلم أن الشيء الذي لا تنضبط أسباب الاطلاع عليه إذا أثارت أسبابه لبعض العارفين ظنا يسوغ له الشهادة لم يسغ له أن يصرح به عند الحاكم لن من الجائز أن لا يتبين له الظن الذي ثار عند الشاهد لا سيما إن قامت عند الشاهد إشارات تقصر عنها العبارات ومن ثم قالوا فيما يشهد فيه بالاستفاضة إن الشاهد لو صرح بأن مستنده الاستفاضة لم يقبل لأنه أضعف قوله بذكر مستنده ا هـ
وقد تبين من عباراتهم المخلفة أن من العلماء من يجعل المستفيض مرادفا للمتواتر ومنهم من يجعله أعلم منه بحيث يقال كل متواتر مستفيض وليس كل مستفيض متواترا ومنهم من يجعله قسما على حدة غير انه دون المتواتر وفوق المشهور وهذا هو المشهور
والمقصود بما ذكرنا التنبيه على اختلاف الاصطلاح فيه ليعرف المطالع إذا رأى توارد الأحكام المختلفة عليه أن ذلك إنما هو لاختلاف اصطلاح المصطلحين فيه لا لأمر آخر

المسالة الثانية قد سبق ذكر معنى السند والإسناد وقول ابن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقد دعا الحال إلى أن نذكر هنا معنى المسند وما يناسبه فنقول
قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر والمسند في قول أهل الحديث هذا حديث مسند هو مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال
فقولي مرفوع كالجنس وقولي صحابي كالفصل يخرج به ما رفعه التابعي فإنه مرسل أو من دونه فإنه معضل أو معلق وقولي ظاهرة الاتصال يخرج ما ظاهره الانقطاع ويدخل ما فيه الاحتمال وما يوجد فيه حقيقة الاتصال من باب الأولى ويفهم من التقييد بالظهور أن الانقطاع الخفي كعنعنة المدلس والمعاصر الذي لم يثبت لقيه لا يخرج الحديث عن كونه مسندا لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذلك
وهذا تعريف موافق لقول الحاكم المسند ما رواه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه وكذا شيخه عن شيخه متصلا إلى صحابي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما الخطيب فقال المسند المتصل فعلى هذا الموقوف إذا جاء بسند متصل يسمى عنده مسندا لكن قال إن ذلك قد يأتي لكن بقلة
وأبعد ابن عبد البر حيث قال المسند المرفوع ولم يتعرض للإسناد فإنه يصدق على المرسل والمعضل والمنقطع إذا كان المتن مرفوعا ولا قائل به ا هـ
قال بعض العلماء ينبغي أن يراد بموافقة تعريفه لتعريف الحاكم الموافقة في الجملة وإلا فالمتبادر من تعريف الحاكم اختصاص المسند بما اتصل فيه السند حقيقة وقد صرح باشتراط عدم التدليس في رواته نعم إن أرباب المساند لم يتحاموا فيها تخريج معنعنات المدلسين ولا أحاديث من ليس له من النبي صلى الله عليه و سلم إلا مجرد الرؤية

وقد عرفت بما ذكر أن للعلماء في معنى المسند ثلاثة أقوال
القول الأول قول من قال ن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبه جزم الحاكم في كتابه في علوم الحديث ولم يذكر فيه غيره وحكاه الحافظ ابن عبد البر في كتاب التمهيد عن قوم من أهل الحديث
وهذا القول هو المشهور وبه يحصل الفرق بين المسند وبين المتصل والمرفوع وذلك أن المرفوع نظر فيه إلى حال المتن مع قطع النظر عن الإسناد اتصل أم لم يتصل والمتصل نظر فيه إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن مرفوعا كان أم موقوفا والمسند نظر فيه إلى الأمرين وهما الرفع والاتصال فيكون أخص من كل منهما فكل مسند مرفوع وكل مستند متصل وليس كل مرفوع مسندا ولا كل متصل مسندا
القول الثاني قول من قال المسند هو الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه ذكره الخطيب نقلا عن جمهور أهل الحديث قال ابن الصلاح وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم
وعلى ذلك يدخل فيه المرفوع والموقوف فلا يكون بينه وبين المتصل فرق إلا من جهة ان المتصل يستعمل في المرفوع والموقوف على حد سواء بخلاف المسند فإنه يستعمل في المرفوع كثيرا وفي الموقوف قليلا غير أن كلام الخطيب يقتضي دخول المقطوع فيه وهو قول التابعين وكذا قول من بعد التابعين وكلام أهل الحديث يأباه
القول الثالث قول من قال المسند ما رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وهو قد يكون تصلا مثل مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد يكون منقطعا مثل مالك عن الزهري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا مسند لأنه قد أسند إلى

رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من ابن عباس قاله ابن عبد البر في التمهيد
فعلى هذا يستوي المسند والمرفوع وقد جرى على ذلك الدارقني في قوله في سعيد بن جبير بن حية الثقفي إنه ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها وغيره يقفها
هذا وقد استشكل بعضهم ما ذكر في القول الأول من قولهم كل مسند تصل وليس كل متصل مسندا فقال إن المسند غنما يطلق على المتن والمتصل إنما يطلق على السند فكيف يسوغ حمل أحدهما على الآخر
ويمكن أن يجاب بأن المراد بقولهم كل مسند متصل أن كل حديث مسند فهو متصل الإسناد وبقولهم ليس كل متصل مسندا أنه ليس كل ما كان متصل الإسناد مسندا وذلك لكونه بعضه ليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وما لا يكون مرفوعا إليه لا يقال له مسند فيصح الحمل في الموضعين على الوجه الذي ذكر
ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى وليس في ذلك تعقيد لتبادر المعنى المراد إلى الذهن ومن وقف مع ظواهر الألفاظ حار في أكثر المواضع
والمراد بالمتصل ما لم يسقط فيه أحد من رجاله ويسمى عدم السقوط اتصالا ويقابل المتصل المنقطع وهو ما سقط فيه واحد من رجاله أو أكثر
تنبيه لا يقال المتصل في حال الإطلاق إلا في المرفوع والموقوف وأما في حال التقييد فيسوغ أن يقال في المقطوع وهو واقع في كلامهم يقولون هذا متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري أو إلى مالك
ولنذكر تفسير هذه الألفاظ فنقول
المرفوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من أقواله وأفعاله أو تقريره سواء أضافه إليه صحابي أو تابعي أو من بعدهما وسواء اتصل إسناده أم لا

وقال الخطيب المرفوع ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه و سلم أو فعله فعلى هذا لا يدخل فيه ما أرسله التابعون ومن بعدهم قال الحافظ ابن الصلاح ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصل
والموقوف ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم وسمي موقوفا لأنه وقف عليهم ولم يتجاوز به إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم إن منه ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي فيكون من الموقوف الموصول ومنه ما لا يتصل إسناده إليه فيكون من الموقوف المنقطع على حسب ما عرف مثله في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وشرط الحاكم في الموقوف أن يكون إسناده غير منقطع إلى الصحابي وهو شرط لم يوافقه عليه أحد وما ذكر من تخصيص الموقوف بالصحابي إنما هو فيما إذا كر مطلقا وإلا فقد يستعمل في غير الصحابي يقال هذا موقوف على عطاء أو على طاوس أو وقفه فلان على مجاهد ونحو ذلك
وقد سمى بعض الفقهاء الموقوف بالأثر وأما المحدثون فجمهورهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف وعلى ذلك جرى الطحاوي في تسمية كتابه المشتمل عليهما بشرح معاني الأثر وكذلك أبو جعفر الطبري في تسمية كتابه المشتمل عليهما بتهذيب الآثار إلا أن إيراده للموقوف فيه إنما كان بطريق التبعية

والمقطوع ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم
وقد استعمل الإمام الشافعي ثم الطبراني المقطوع في المنقطع الذي لم يتصل إسناده ووقع في كلام الحميدي والدارقطني إلا أن الشافعي استعمل ذلك قبل استقرار الاصطلاح كما استعمل الحسن في بعض الأحاديث وهي على شرط الشيخين
ووقع للحافظ أبي بكر أحمد البردعي عكس هذا فاستعمل المنقطع في المقطوع حيث قال المنقطع هو قول التابعي وحكى الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله قال ابن الصلاح وهو بعيد غريب
فائدة قال الحافظ السيوطي جمع أبو حفص ابن بدر الموصلي كتابا سماه معرفة الوقوف على الموقوف أورد فيه ما أورده أصحاب الموضوعات في مؤلفاتهم فيها وهو صحيح عن غير النبي صلى الله عليه و سلم إما عن صحابي أو تابعي فمن بعده وقال إن إيراده في الموضوعات غلط فبين الموضوع والموقوف فرق ومن مظان الموقوف والمقطوع مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم ا هـ
ولنشرع في بيان أقسام الحديث فنقول قلا الإمام أبو سليمان أحمد الخطابي الحديث عند أهله ثلاثة أقسام صحيح وحسن وسقيم

فالصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته
والحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدرا أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامة الفقهاء
والسقيم على ثلاث طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول
قال العراقي في نكته لم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه المذكور وإن كان في كلام المتقدمين ذكر الحسن هو موجود في كلام الشافعي والبخاري وجماعة ولكن الخطابي نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه ابن الصلاح
وأراد الخطابي بأهل الحديث في قوله الحديث عند أهله ثلاثة أقسام أكثرهم ويمكن إبقاؤه على عمومه نظرا لاستقرار اتفاقهم على ذلك بعد الاختلاف
وقد اعترض بعضهم على هذا التقسيم بأنا إن نظرنا إلى نفس الأمر فما ثم إلا صحيح وغير صحيح وإن نظرنا إلى اصطلاح المحدثين فهو ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك وأجابوا بأن هذا التقسيم مبني عل اصطلاح المحدثين والأقسام التي أشار إليها راجعة إلى هذه الثلاثة
وأما المتقدمون فقد كان أكثرهم يقسم الحديث إلى قسمين فقط صحيح وضعيف وأما الحسن فذكر بعض العلماء أنهم كانوا يدرجونه في الصحيح لمشاركته له في الاحتجاج به
وذكر العلامة ابن تيمية أنهم كانوا يدرجونه في الضعيف قال في منهاج السنة النبوية أما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه

وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح وإما ضعيف والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك فتكلم أئمة الحديث بلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف لا اصطلاح الترمذي فسمع بعض قول الأئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقه من يرى أنه اتبع للحديث الصحيح وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان
هذا وقد رأينا أن نورد كل قسم من الأقسام الثلاثة في مبحث وجل ما نذكره في الغالب مأخوذ من كلام مهذب هذا الفن الحافظ عثمان بن الصلاح أو كلام من اقتفى أثره من بعده من المختصرين لكلامه أو المستدركين عليه مع التصرف في بعض المواضع إن دعت الحال إليه


المبحث الأول
في الحديث الصحيح الحديث الصحيح هو الحديث الذي يكون متصل الإسناد من أوله إلى منتهاه بنقل العدل الضابط عن مثله ولا يكون فيه شذوذ ولا علة
فخرج بقولهم الذي يكون متصل الإسناد ما لم يتصل إسناده وهو المنقطع والمرسل والمعضل وبقولهم بنقل العدل ما في سنده من لم تعرف عدالته وهو من عرف بعدم العدالة أو من جهلت حاله أو لم يعرف من هو وبالضابط غير الضابط وهو كثير الخطأ فإن ما يرويه لا يدخل في حد الصحيح وإن عرف هو بالصدق والعدالة وبقولهم ولا يكون فيه شذوذ ما يكون فيه شذوذ والشذوذ مخالفة الثقة في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين وبقولهم ولا علة ما يكون فيه علة
والمراد بالعلة هنا أمر يقدح في صحة الحديث ولما كان من العلل ما لا يقدح في ذلك قيد بعضهم العلة بالقادحة فقال ولا علة قادحة ومن أطلق العبارة اكتفى بدلالة الحال على ذلك ولكل وجهة وقد زاد بعضهم في تقييد العل فقال ولا علة خفية قادحة والأولى ترك هذه الزيادة لأنها توهم أن العلة الظاهرة لا تؤثر مع أنها أولى بالتأثير من العلة الخفية والعلة الظاهرة مثل ضعف الراوي أو عدم اتصال السند
وقد اعتذر بعضهم عن ذلك فقال إنما قيد العلة بالخفية لأن الظاهرة قد وقع الاحتراز عنها في أول التعريف وهو مما لا يجدي نفعا
واختصر بعضهم هذا التعريف فقال الحديث الصحيح ما اتصل سنده

بنقل عدل ضابط عن مثله وسلم من شذوذ وعلة فأورد عليه بأن الاختصار يقتضي أن يقال بنقل ثقة عن مثله فإن الثقة هو الجامع بين وصف العدالة والضبط وأجيب عن ذلك بأن الثقة قد يطلق على من كان مقبولا وإن لم يكن تام الضبط والمعتبر في حد الصحيح إنما هو تام الضبط ولذا فسروا الضابط في تعريفه بتام الضبط
وما ذكر هو حد الحديث الذي يحكم له بالصحة أهل الحديث بلا خلاف بينهم وأما اختلافهم في صحة بعض الأحاديث فهو إما لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه وإما لاختلافهم في اشتراط هذه الوصاف كما في المرسل
وإنما قيد نفي الخلاف بأهل الحديث لأنه قد نقل عن أناس من غيرهم أنهم لم يكتفوا بما ذكر في صحة الحديث 3فقد نقل عن إبراهيم بن إسماعيل بن علية أنه جعل الرواية مثل الشهادة فلم يقبل ما ينفرد به الراوي العدل الضابط وشرط في قبول الحديث أن يرويه اثنان عن اثنين وهو من الفقهاء المحدثين إلا أنه غير مقبول القول عند الأئمة لميله إلى الاعتزال وقد كان الشافعي يرد عليه ويحذر منه
ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة انه قال لا يقبل الخبر إذا رواه العدل إلى إذا انضم إليه خبر عدل آخر أو عضده موافقة ظاهر الكتاب او ظاهر خبر آخر أو يكون منتشرا بين الصحابة أو عمل به بعضهم كى ذلك أبو الحسين البوصيري في المعتمد
قال الغزالي إن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية كل واحد

إلا من رجلين آخرين وإلى ما ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا
وقال الفخر الرازي رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين مقبولة وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل بعض أصحابه أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم
وقد نقل عن بعض أصحاب الحديث أيضا أنهم اشترطوا التعدد في الراوي وكأن الناقل أخذ ذلك من كلام الحاكم
فقد قال في كتاب علوم الحديث وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم وله راويان ثقتان ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية وله رواة ثقات وقال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل الصحيح من الحديث عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف عليها
فالأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح وهو أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم له راويان ثقتان فأكثر يم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من اتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك قال الحاكم والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث
القسم الثاني مثل الأول إلا أن رواته من الصحابة ليس له إلا راو واحد
القسم الثالث مثل الأول إلا أن رواته من التابعين ليس له إلا راو واحد
القسم الرابع الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول

القسم الخامس أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإياس بن معاوية عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات
قال الحاكم فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة فيحتج بها وإن لم يخرج منها في الصحيحين حديث يعني غير القسم الول قال والخمسة المختلف فيها المرسل وأحاديث المدلسين إذ لم يذكروا سماعهم وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين انتهى كلام الحاكم
فقد جعل ما ذكره في علوم الحديث شرطا للصحيح مطلقا وجعل ذلك في المدخل شرطا للصحيح عند الشيخين
وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى من أنه شرط الشيخين بما في الصحيح من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راو في الكتابين يشترط أن يكون له راويان لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه
وقال أبو علي الغساني ونقله عنه القاضي عياض ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه ثم عن تابعيه فمن بعده فغن ذلك يعز وجوده وإنما المراد أن هذا الصحابي وهذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة
قال أبو عبد الله بن المواق مت حمل الغساني عليه كلام الحاكم وتبعه عليه عياض وغيره ليس بالبين ولا أعلم أحدا روى عنهما انهما صرحا بذلك ولا وجود له في كتابيهما ولا خارجا عنهما

فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح لتصرفهما في كتابيهما فلم يصب لأن الأمرين معا في كتابيهما وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريا في كتابيهما فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه ولعل وجود ذلك أكثريا إنما هو لن من روى عنه أكثر من واحد أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد في الرواة مطلقا لا بالنسبة إلى من خرج لهم في الصحيحين
وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط من غير أن يثبت عنهما ذلك مع وجود إخلالهما به أنهما إذا صح عنهما اشتراط ذلك كان في إخلالهما به درك عليهما
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في شرح الموطأ كان مذهب الشيخين أن الحديث لا يثبت حتى يرويه اثنان وهو مذهب باطل بل رواية الواحد عن الواحد صحيحه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال في شرح البخاري عند حديث إنما الأعمال بالنيات انفرد به عمر وقد جاء من طريق أبي سعيد رواه البزار بإسناد ضعيف
قال وحديث عمر وإن كانت طريقة واحدة فإنما بنى البخاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد فهذا الحديث ليس من ذلك الفن لأن عمر قاله على المنبر بمحضر الأعيان من الصحابة فصار كالمجمع عليه فكأن عمر ذكرهم لا أخبرهم
ال ابن رشيد العجب منه كيف يدعي عليهما ذلك ثم يزعم انه مذهب باطل فليت شعري من اعلمه بأنهما اشترطا ذلك إن كان منقولا فليبين طريقة لننظر فيها وغن كان عرفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك ولقد كان يكفيه في في ذلك أول حديث في البخاري

وما اعتذر به عنه فيه تقصير لأن عمر لم ينفرد به وحده بل انفرد به علقمة عنه وانفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة وانفرد به يحيى بن سعيد بن محمد وعن يحيى تعددت رواته وأيضا فكون عمر قاله على المنبر لا يستلزم أن يكون كر السامعين بما عندهم بل هو محتمل للأمرين وإنما لم ينكروه أنه عندهم ثقة فلو حدثهم بما لم يسمعوه قط لم ينكروا عليه
وقد ادعى الحافظ ابن حبان أن رواته اثنين عن اثنين إلى ان ينتهي السند لا توجد أصلا قال بعض المحققين إن أراد أو رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلا فيمكن أن يسلم وأما صورة العزيز فموجودة والعزيز عندهم هو الذي يكون في طبقة من طبقاته اثنان من الرواة فقط وتكون الرواة في سائر طبقاته ليست أقل من اثنين فيشمل ما كان في سائر طبقاته اثنان أو أكثر
والذي أنكره ابن حبان هو رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي السند فإنكاره ذلك لا يستلزم إنكار الحديث العزيز الذي قرره المحدثون وإنما أنكر نوعا منه وعبارته لا تحتمل غير ذلك
وها هنا أمر ينبغي الانتباه له وهو أن ظاهر عبارة ابن العربي تشعر بأن الشيخين يشترطان التعدد حتى في الصحابة وظاهر عبارة الحاكم تشعر بخلاف ذلك
والمشهور عند المحدثين أنهم لم يشترطوا في المشهور فضلا على العزيز التعدد في الصحابة نعم قد اشترط ذلك أبو علي الجبائي ومن نحا نحوه وقد توهم بعضهم أن الحاكم قد نحا في كتابه علوم الحديث منحى أبي علي
على أن كثيرا من العلماء قال إن عبارته المذكورة لا تدل على أن الحديث المروي يجب أن يجتمع في راويان عن الصحابي الذي رواه ثم عن تابعيه فمنة بعده وإنما تدل على ان كلا من الصحابي والتابعي ومن بعده قد روى عنه رجلان

خرج بهما عن حد الجهالة ليعلم أن الحديث قد رواه المشهورين بالرواية
وأغرب مما قاله ابن العربي وإن كان لا يستغرب منه ذلك لجريه على عادته في عدم التثبت وإقدامه على ما لا قدم له فيه وتهويله على مخالفيه قول أبي حفص عمر الميانجي في كتاب ما لا يسع المحدث جهلة شرط الشيخين في صحيحهما أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما وذلك ما رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم اثنان فصاعدا وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر وان يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة
هذا وقد اعترض بعض المحققين من أهل الأثر على ما ذكره الحاكم في المدخل من أن الشيخين إنما خرجا من الأقسام الخمسة المتفق عليها عند أئمة الحديث القسم الأول الذي هو الدرجة الأولى من الصحيح وأما الأقسام الأربعة الباقية فإنهما لم يخرجا منها في الصحيحين حديثا فإن البحث والتتبع أدياه إلى أن فيهما شيئا من كل واحد منها
أما القسم الثاني وهو ما ليس لراويه من الصحابة غير راو واحد مثل حديث عروة بن مضرس الذي ليس له غير الشعبي ففيهما منه جملة من الأحاديث
وأما القسم الثالث وهو ما ليس لراويه من التابعين إلا راو واحد مثل محمد بن جبير وعبد الرحمن بن فروخ ففيهما قليل من ذلك كعبد الله بن وديعة وعمر بن محمد بن جبير بن مطعم
وأما القسم الرابع وهو الأحاديث الأفراد الغرائب التي ينفرد بها ثقة من الثقات ففيهما كثير منه لعله يزيد على مئتي حديث وقد أفردها الحافظ ضياء الدين المقدسي وهي المعروفة بغرائب الصحيح
وأما القسم الخامس وهو أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كعمرو بن

شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإياس بن معاوية بن مرة عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات فليس المانع من إخراجهما هذا القسم في صحيحهما كون الرواية وقعت عن الأب عن الجد بل لكون الراوي أو أبيه ليس على شرطهما وإلا ففيهما أو في أحدهما من ذلك رواية علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده ورواية محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده ورواية أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده ورواية الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما عن جدهما وغير ذلك
وأما الخمسة المختلف فيها فيظن في بادئ الرأي أنه ليس في الصحيحين منها شيء وليس الأمر كذلك
أما القسم الأول منها وهو مرسل والقسم الثاني وهو أحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم فليس فيهما من ذلك شيء
وأما القسم الثالث وهو ما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات ففي الصحيحين عدة أحاديث اختلف في وصلها وإرسالها
وأما القسم الرابع وهو روايات الثقات غير الحفاظ العارفين فهو متفق على قبوله والاحتجاج به إذا وجدت شرائط القبول وليس هو من قبيل المختلف فيه ولا يبلغ الحفاظ العارفون نصف رواة الصحيحين وليس يشترط في الراوي أن يكون حافظا
وأما القسم الخامس وهو روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين فهو كما ذكر من الاختلاف فيه وقد وقعت فيهما أحاديث عن جماعة من المبتدعة عرف صدقهم واشتهرت معرفتهم بالحديث فلم يطرحوه للبدعة
ومن الأقسام المختلف فيها رواية المجهول فقد قبلها قوم وردها آخرون
وقد بقي للصحيح شروط قد اختلف فيها
فمنها ما ذكره الحاكم في علوم الحديث من كون الراوي مشهورا بالطلب

وليس مراده الشهرة المخرجة عن الجهالة بل قدر زائد على ذلك قال عبد الرحمن بن عون لا يؤخذ العلم إلا عمن شهد له بالطلب وعن مالك نحوه وفي مقدمة صحيح مسلم عن أبي الزناد قال أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله
قال الحافظ ابن حجر والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك إلا إذا كثرت مخارج الحديث فيستغنيان عن اعتبار ذلك كما يستغنى بكثرة الطرق عن اعتبار الضبط التام قال ويمكن أن يقال إن اشتراط الضبط يغني عن ذلك إذ المقصود بالشهرة بالطلب أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية لتركن النفس إلى كونه ضبط ما روى
ومنها ثبوت التلاقي بين كل راو ومن روى عنه وعدم الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان التلاقي بينهما وقد اشترط ذلك البخاري قيل إنه لم يذهب أحد إلى أن هذا شرط لكون الحديث صحيحا بل لكونه أصح وقد أنكر هذا الشرط مسلم في صحيحه وشنع على قائله
قال العلامة محيي الدين يحيى النووي في شرحه إن مسلما ادعى إجماع العلماء قديما وحديثا على ان المعنعن وهو الذي فيه فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم مع التدليس
ونقل مسلم عن بعض أهل عصره انه قال لا تقوم الحجة بها ولا تحمل على الاتصال حتى يثبت انهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي إمكان تلاقيهما قال مسلم وهذا قول ساقط مخترع مستحدث لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه وإن القول به بدعة باطلة وأطنب في التشنيع على قائله

واحتج مسلم رحمه الله بكلام مختصرة أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال وكذا إذا أمكن التلاقي
وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون هذا الذي صار إليه ضعيف والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري وغيرهما
وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي فاشترط طول الصحبة بينهما وزاد أبو عمرو الداني المقرئ فاشترط معرفته بالرواية عنه
ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري وموافقوهما أن المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال لأن الظاهر ممن ليس بمدلس أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع ثم الاستقراء يدل عليه فإن عادتهم انهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه إلا المدلس ولهذا رددنا رواية المدلس فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال والباب مبني على غلبة الظن فاكتفينا به
وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ويصير كالمجهول فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله والله اعلم
هذا حكم المعنعن من غير المدلس وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة وهذا كله تفريع على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول أن المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال الانقطاع وهذا المذهب مردود بإجماع السلف ودليلهم ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء والله اعلم
هذا حكم المعنعن أما إذا قال حدثني فلان أن فلانا قال كقوله حدثني الزهري أن سعيد بن المسيب قال كذا أو حدث بكذا أو نحوه فالجمهور على أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم وقال أحمد بن حنبل ويعقوب بن شيبة وأبو بكر البرديجي لا تحمل أن على الاتصال وإن كانت عن للاتصال والصحيح الول وكذا قال وحدث وذكر وشبهها فكله محمول على الاتصال والسماع ا هـ
ومنها ما ذكره السمعاني في القواطع وهو أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط وغنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثر السماع والمذاكرة قال بعضهم إن هذا داخل في اشتراط كونه غير معلول لأن الاطلاع على ذلك إنما يحصل بما ذكر من الفهم والمعرفة وغرهما
واعلم أن هذه المسألة هي من أهم مسائل هذا الفن الجليل الشأن والناظرون في هذا الموضع قد انقسموا إلى ثلاث فرق
الفرقة الأولى فرقة جعلت جل همها النظر في الإسناد فإذا وجدته متصلا ليس في اتصاله شبهة ووجدت رجاله ممن يوثق بهم حكمت بصحة الحديث قبل إمعان النظر فيه حتى إن بعضهم يحكم بصحته ولو خالف حديثا آخر رواته أرجح ويقول كل ذلك صحيح وربما قال هذا صحيح وهذا أصح وكثيرا ما يكون الجمع بينهما غير ممكن
وإذا توقف توقف في ذلك نسبة إلى خالفة السنن وربما سعى في إيقاعه في محنة من المحن مع أن جهابذة هذا الفن قد حكموا بان صحة الإسناد لا تقتضي صحة المتن ولذلك لا يسوغ لمن رأى حديثا له إسناد صحيح أن يحكم

بصحته إلا أن يكون من أهل هذا الشأن لاحتمال أن تكون له علة قادحة قد خفيت عليه وقد وصل الغلو بفريق منهم إلى أن ألزموا الناس بالأخذ بالأحاديث الضعيفة الواهية فأوقعوا الناس في داهية وما أدراك ماهيه وهذه الفرقة هم الغلاة في الإثبات
وأكثرهم من أهل الأثر الذين ليس بهم فيه فضلا عن غيره دقة نظر وقد أشار مسلم إلى ناس منهم يعتدون برواية الأحاديث الضعاف مع معرفتهم بحالها ووصفهم بما هم جديرون به قال في مقدمة كتابه المشهور وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم عقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا
وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين غنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على من سمع بعض تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أن الأخبار الصحاح من رواته الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع
ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن

والضعف إلا ان الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد
ومن ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم ا هـ
الفرقة الثانية فرقة جعلت جل همها النظر في نفس الحديث فإن راقها أمره حكمت بصحته وأسندته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وإن كان في إسناده مقال مع أن في كثير من الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ما هو صحيح المعنى فصيح المبنى غير أنه لم تصح نسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وذكر مسلم في مقدمة كتابه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن رقبة أن أبا جعفر الهاشمي المديني كان يضع أحاديث كلام حق وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم وكان يرويها النبي صلى الله عليه و سلم
قوله كرم حق بنصب كرم على انه بدل من أحاديث يريد به كلاما صحيح المعنى وهو حكمه من الحكم وقد كذب فيه لنسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وهو ليس من كلامه وأبو جعفر هذا قد ذكره البخاري في تاريخه فقال هو عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب أبو جعفر القرشي الهاشمي وذكر كلام رقبة وهو هذا الكلام الذي هنا
وقال بعض الوضاعين لا بأس إذا كان الكلام حسنا أن تضع له إسنادا وحكى القرطبي عن بعض أهل الرأي أنه قال ما وافق القياس الجلي يجوز أن

يعزى إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وإن راعهم أمره لمخالفته لشيء مما يقولون به وإن كان مبنيا على مجرد الظن بادروا لرد الحديث والحكم بوضعه وعدم صحة رفعه وإن كان إسناده خاليا عن كل علة وإن ساعدهم الحال على تأويله على وجه لا يخالف أهواءهم بادروا إلى ذلك
وهذه الفرقة هم المعتزلة والمتكلمون الذين حذوا حذوهم وقد نحا أناس م غيرهم نحوهم وقد طعنت الفرقة الأولى في هذه الفرقة طعنا شديدا وقابلتهم هذه الفرقة بمثل بمثل ذلك أو أشد نسبوا رواة ما أنكروه من الأحاديث إلى الاختلاق والوضع مع الجهل بمقاصد الشرع وقد ذكر ابن قتيبة شيئا من ذلك في مقدمة كتابه الذي وضعه في تأويل مختلف الحديث
والمجاملون منهم اكتفوا بان نسبوا إلى الرواة الوهم والغلط والنسيان وهو مما لا يخلو عنه إنسان وقالوا إن المحدثين أنفسهم قد ردوا كثيرا من أحاديث الثقات بناء على ذلك
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي قد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من أجلة أهل العلم وضعفوهم من قبل حفظهم ووثقهم آخرون من الأئمة لجلالتهم وصدقهم وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد ين عمرو ثم روى عنه وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة

هكذا بغير الإسناد وإنما جاء هذا من قبل حفظه لأن أكثر من مضى من اهل العلم كانوا لا يكتبون ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع
وكان كثير من الرواة يروي بالمعنى فكثيرا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرا عن أداء المعنى بتمامه وكثيرا ما يكون أدنى تغيير حيلا له وموجبا لوقوع الإشكال فيه وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى قال وكيع إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس وإنما تفاضل أحد من الأئمة مع حفظهم وقال مجاهد انقض من الحديث إن شئت ولا تزد فيه
ولا يدخل في هذه الفرقة أناس ردوا بعض الأحاديث الصحيحة الإسناد لشبهة قوية عرضت لهم أوجبت شكهم في صحتها إن كانت مما لا يدل فيه النسخ أو في بقاء حكمها إن كانت مما يدخل فيه فقد وقع التوقف في الأخذ بأحاديث صحيحة الإسناد فقد وقع لك لأناس من العلماء الأعلام المعروفين بنشر السنن بل وقع لأناس من كبار من الصحابة
فقد زعم محمود بن الربيع الأنصاري وكان ممن عقل رسول الله وهو صغير أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري وكان ممن شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي يذلك وجه الله وكان رسول الله في دار عتبان
ولهذا الحديث قصة قال محمود فحدثتها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله في غزوته التي توفي فيها بأرض الروم فأنكرها علي أبو أيوب وقال والله ما أظن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما قلت قط فكبر ذلك علي فجعلت لله علي إن سلمني حتى أقفل من غزوتي أن أسأل عنها عتبان بن مالك إن وجدته حيا في مسجد قومه فقفلت ذكر ذلك البخاري في باب صلاة النوافل جماعة فارجع إليه إن أحببت معرفة القصة وتمام الكلام في ذلك

فانظر إلى أبي أيوب الأنصاري الذي كان من خواص النبي عليه الصلاة و السلام كيف غلب على ظنه عدم صحة هذا الحديث وأقسم على ذلك بناء على انه لم يسمع منه قط عليه السلام ما يشاكل هذا الكلام مما يوهم خلاف المرام ومثل هذا كثير فيما يروي وما كان منه بأسانيد صحيحة مما لا يثبت في نفس الأمر فأكثره مما روي بالمعنى غير أن الراوي لم يساعده اللفظ عن أدائه بتمامه
قال الشراح قيل إن الباعث له على الإنكار هو أن ظاهر هذا الحديث يوهم أنه لا يدخل أحد من عصاة الموحدين النار وهو مخالف لآيات كثيرة وأحاديث مشهورة وأجيب بحمل التحريم على عدم الخلود
وقد استدلت المرجئة بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم والمرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة
والإرجاء من البدع التي يعظم ضررها أنها تنزل بالأمة إلى الحضيض الأسفل وتجعل عاقبتها الدمار وقد نسب ذلك إلى كثير من أعيان الأمة إلا أن النسبة غير صحيحة في كثير منهم والذين صحت نسبة لك إليهم يقولون إن كثيرا ممن ينبزوننا بهذا اللقب لا فرق بيننا وبينهم في المآل وإن فرق بيننا وبينهم ظاهر المقال
وأما المعتزلة فإنهم ينكرون هذا الحديث ونحوه أشد إنكار وينسبون وضعه للمرجئة ومن نحا نحوهم لمخالفته لمذهبهم فإنهم هم والخوارج يقولون إن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة نصوح عنها مخلد في النار ولا يخرج منها أبدا ولا يحاولون تأويل هذا الحديث ونحوه على وجه لا يزعزع مذهبهم لأنهم يقولون إن في ظاهرة إغراء على المعاصي وذلك مناف للحكمة لا سيما من صاحب الشرع الذي بعث لزجر الناس عنها وتنفيرهم منها
وكانت المرجئة كثيرا ما ترمي من يبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بالقدر يريدون بذلك أذاهم ولا يخفى شدة نفره الناس لا سيما الأمراء والعامة من القدرية وهم المعتزلة
وقد شاع وذاع أن مذهب المعتزلة نشأ عن التوغل في علم الفلسفة وهو قول أشاعه إما جاهل أو متجاهل فإن مذهب الاعتزال نشأ واستقر في آخر عصر الصحابة ولم يكن قد ترجم شيء من كتب الفلسفة التي يزعمون أنها أغوتهم فانحرفوا بها عن مذهب أهل السنة ولذلك قال بعض العلماء قد رويت أحاديث في ذم القدرية روى بعضها أهل السنن وبعض الناس يثبتها ويقويها ومن العلماء من يطعن فيها ويضعفها ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس
وقد وقع في مذهبهم مسائل تبعد عن العقل جدا وذلك مثل قولهم من أتى بكبيرة واحدة فقد حبطت جميع طاعاته ومن عمر عمرا مديدا وأتى بكل ما أمكنه من الطاعات واجتنب جميع المنكرات وكان من الموفقين للبر والإحسان ثم عرض له أن تناول جرعة خمر فغص بها فقضي عليه فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبدا
نعم هم أكثر الفرق اعتناء بالقاعدة المشهورة وهي لا يأتي في النقل الصحيح ما يخالف العقل الصريح فإن أتى في النقل الصحيح ما يوهم المخالفة وجب الجمع بينهما وذلك بحمل النقل على معنى لا يخالف العقل وتجعل دلالة العقل قرينة على ذلك
وهي قاعدة متفق عليها ولم تنقل المخالفة فيها إلا عن أناس من الحشوية وهم فرقة لا يعبأ بها ولعل مخالفتهم مبنية عل كونهم لم يعرفوا ما أريد بالعقل الصريح وقد ظن أناس أن هذه المسألة من مسائل علم الكلام فقط وليس كذلك بل هي من مسائل أصول الفقة أيضا فقد ذكروا ذلك في مبحث التخصيص وفي مبحث ما يرد به الخبر


وهاك عبارات مما ذكروا في مبحث التخصيص قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع الأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان متصل منفصل
فالمتصل هو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة ولها أبواب تأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وأما المنفصل فضربان من جهة العقل ومن جهة الشرع فالذي من جهة العقل ضربان
أحدهما ما يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز التخصيص به لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع
والثاني ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفي الخلق عن صفاته فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) بالصفات وقلنا المراد به ما خلا الصفات لأن العقل قد دل على انه لا يجوز أن يخلق صفاته فخصصنا العموم به
تنبيه التخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله وهو قد يكون بغير مستقل كالاستثناء والشرط وقد يكون بمستقل كالعقل والعادة وخصت الحنفية اسم التخصيص بما يكون بمستقل وقال الغزالي في المستصفى وبدليل العقل خصص قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) إذ خرج عنه ذاته وصفاته إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به وكذلك قوله تعالى ولله على الناس حج البيت ) خرج منه الصبي والمجنون لأن العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم

فإن قيل كيف يكون العقل مخصصا وهو سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا ولأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن ان يتناوله اللفظ
قلنا قال قائلون لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز فقد بينا أن تخصيص العام محال لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم وانه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا ودليل العقل يجوز لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله ( خالق كل شيء ) نفسه وذاته فإنه وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله
وأما قولهم لا يجوز دخوله تحت اللفظ فليس كذلك بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان ولكن يكون قائله كاذبا ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع
وقال الفخر الرازي في فصل تخصيص العموم بالعقل هذا قد يكون بضرورة العقل كقوله تعالى ( خالق كل شيء ) فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظر العقل كقوله تعالى ( ولله على الناس ح البيت من استطاع إليه سبيلا ) فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما
ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى لأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور
فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فليلزم صدق النقيضين وهو محال

أو يرجح النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل فالقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا
وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم للعقل
وأما البحث اللفظي فهو ان العقل هل يسمى خصصا أم لا فنقول إن أردت بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام في بعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة فالعقل يكون دليل المخصص على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ
فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل
وقال القرافي في تنقيح الفصول يجوز عند مالك وأصحابه تخصيص العام بالعقل خلافا لقوم كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) خصص العقل ذات الله وصفاته وقال في شرحه الخلاف محكي على هذه الصورة وعندي أنه عائد على التسمية فإن خروج الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم غير أنه لا يسمى بالتخصيص إلا ما كان باللفظ هذا ما يمكن أن يقال أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله مسلم

وقال جمال الدين الأسنوي في شرح المنهاج أقول لما فرغ المصنف من المخصصات المتصلة شرع في المنفصلة والمنفصل هو الذي يستقل بنفسه أي لا يحتاج في ثبوته إلى ذكر العام معه بخلاف المتصل كالشرط وغيره وقسمه المصنف إلى ثلاثة أقسام وهي العقل والحس والدليل السمعي
ولقائل أن يقول يرد عليه التخصيص بالقياس وبالعادة وقرائن الأحوال إلا أن يقال إن القياس من الأدلة السمعية ولهذا أدرجه في مسائله ودلالة القرينة والعادة العقلية
وفيه نظر لأن العادة قد ذكرها في قسم الدليل السمعي وحينئذ يلزم فساده أو فساد الجواب
الأول العقل والتخصيص به على قسمين أحدهما أن يكون بالضرورة كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) فإنا نعلم بالضرورة انه ليس خالقا لنفسه والتمثيل بهذه الآية ينبني على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه وهو الصحيح كما تقدم وعلى أن الشيء يطلق على الله تعالى وفيه مذهبان للمتكلمين والصحيح إطلاقه عليه لقوله تعالى ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد ) الآية
الثاني أن يكون بالنظر كقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت ) فإن العقل قاض بإخراج الصبي والمجنون للدليل الدال على امتناع تكليف الغافل
وقال بعض العلماء أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم واختلفوا في تسميته تخصيصا وممن لم يسم ذلك تخصيصا الإمام الشافعي ومن حذا حذوه في ذلك نظرا إلى أن ما خص بالعقل لا تصح إرادته بالحكم وقال من سمى ذلك تخصيصا إن عدم صحة إرادته بالحكم إنما يقتضي عدم التناول من

حيث الحكم لا من حيث اللفظ وهذا كاف في تحق التخصيص والخلاف بين الفريقين لاتفاقهم على الرجوع إلى العقل فيما نفي عنه حكم العام
وقال في نزهة الخواطر في اختصار روضة الناظر لا نعلم اختلافا في جواز تخصيص العموم وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قول الله تعالى ( الله خالق كل شيء ) و ( تجبى إليه ثمرات كل شيء ) و ( تدمر كل شيء ) وقد ذكر أن أكثر العمومات مخصصة
وقال عبيد الله المعروف بصدر الشريعة في التنقيح وشرحه المسمى بالتوضيح بعد أن ذكر ان قصر العام على بعض ما يناوله قد يكون بغير مستقل وقد يكون بمستقل وأنه في غير المستقل يكون حقيقة في البواقي وهو حجة بلا شبهة فيه وأما في المستقل فإنه يكون مجازا يفي البواقي بطريق إطلاق اسم الكل على البعض من حيث القصر وحقيقة من حيث التناول وهو حجة فيه شبهة
ولم يفرقوا بين الكلام وغيره لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيا لأنه في حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء معتمدا على العقل على أنه مفروغ عنه حتى لا نقول إن قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) ونظائره دليل فيه شبهة
وهذا فرق قد تفرد بذكره وهو واجب الذكر حتى لا يتوهم أن خطابات الشرع التي خص منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهة كالخطابات الواردة

بالفرائض فإنه يكفر جاحدها إجماعا مع كونها مخصوصة فإن التخصيص بالعقل لا يورث شبهة فإن كل ما يوجب العقل تخصيصه يخص وما لا فلا ا هـ
وقد تعرض ابن حزم الظاهري في كتاب الإحكام لهذه المسألة في باب العموم وقد نقلنا مع العبارة المقصودة ما قبلها من العبارات على طريق التلخيص إتماما للفائدة
قال الباب الثالث عشر في حمل الأوامر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقف أو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق
قال علي اختلف الناس في هذا الباب فقالت طائفة لا تحمل الألفاظ لا على الخصوص ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض
وقال بعضهم بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة للتعبير عن المعاني الواقعة تحته ثم اختلفوا على قولين
فقالت طائفة منهم إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شيء أم لا فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا
وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر ولكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره
وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من

أفعالهم فيما خلا فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على توجيه مسائلهم وفي هذا عجب أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول وإنما فائدة الدليل وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال فمتى يهتدي من اتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله وإلا فهي مطرحة عنده
قال علي فما احتج به من ذهب إلى اللفظ لا يحمل على عمومه إلى بعد طلب دليل على الخصوص أو إلا بدليل على انه للعموم إن قالوا قد وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص فعلمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل
قال علي وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر ونقول ها هنا إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب إلى أن يبطل كل لفظ ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها ولو كان ذلك لكاتن وجودنا آيات منسوخة لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها
وقالوا أيضا لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما فصح أن كل خطاب إنما قصد من بلغه ذلك الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم
قال علي هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم ليت شعري أين كان عن قوله تعالى ( وهو بكل شيء عليم ) وأيضا فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العاملين بالمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولمن نعن بقولنا بالأمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم وإنما عنينا حمل كل لفظ أتى

على ما يقتضي ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع فإن ذلك عموم له
وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي وم حيوان نهي عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومن خالفنا لزمه أن لا ينفذ تحريم قتل نفي إلا بدليل ومثل قوله عليه الصلاة و السلام كل مسكر حرام فالواجب أن يحمل على كل مسكر ومن تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة وحكم العقل وحكم الديانة
قال علي وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى ( إن الفجار لفي جحيم ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقالوا إنها غير محمولة على عمومها قال ونحن لم ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل
ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى ( تدمر كل شيء ) وقال تعالى ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقال تعالى ( وأوتيت من كل شيء ) وقد علمنا أن الريح لم تدمر كل شيء في العالم وأن بلقيس لم تؤت من كل شيء لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي
قال علي وهذا كله لا حجة لهم فيه
أما قوله تعالى ( تدمر كل شيء ) فإنه لم يقل ذلك وأمسك بل قال تعالى ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) فصح بالنص عموم هذا اللفظ لأنه تعالى إنما قال إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية

وأما قوله ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) فإنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم
وأما قوله تعالى ( وأوتيت من كل شيء ) فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد ونحن لا نحتج بقول الهدهد وإنما نحتج بما قال الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه أو حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالا كثيرة ليست مما يصح فإن قال قائل إن سليمان عليه السلام قال للهدهد ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) قلنا نعم ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق
واحتجوا بقوله تعالى ( خلق كل شيء ) وهو عز و جل غير مخلوق وبقوله تعالى ( والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) قالوا وإنما قال لهم ذلك بعض الناس وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس
قال علي نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة بل أجزنا ذلك وقد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء أن ذلك في كل ما دونه عز و جل على العموم وهذا مفهوم من نص الآية لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله فيما ذكر أنه خلقه
وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن الناس قد جمعوا لهم ناسا غير الناس الجامعين وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل ا هـ


وهاك عبارات مما ذكروا في مبحث ما يرد به الخبر قال الشيرازي في اللمع في باب بيان ما يرد به خبر الواحد إذا روى الخبر ثقة رد بأمور
أحدها ن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول واما بخلاف العقول فلا
والثاني أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ
والثالث أن يخالف الإجماع فيستدل به على انه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه
والرابع أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم
والخامس أن ينفرد برواي ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية فأما إذا ورد مخالفا للقياس أو انفرد الواحد برواية ما تعم به البلوى لم يرد وقد حكينا الخلاف في ذلك فأغن عن الإعادة ا هـ
وقال الغزالي في المستصفى القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة
الأول ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره او الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة الثاني ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواتر وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة و السلام وللأمة

الثالث ما صرح بتكذيبه مع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته
وقال القرافي الدال على كذب الخبر خمسة وهو منافاته لما علم بالضرورة أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواترا ولم يتواتر وكقواعد الشرع أو لهما جميعا كالمعجزات او طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقرار الأحاديث فلم يوجد
ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية
الفرقة الثالثة فرقة جعلت همها البحث عما صح من الحديث لتأخذ به

فأعطت المسألة حقها من النظر فبحثت في الإسناد والمتن معا بحث مؤثر للحق فلم ينسب إلى الرواة الوهم والخطأ ونحو ذلك لمجرد كون المتن يدل على خلاف رأي لها مبني على مجرد الظن ولم تعتقد فيهم انهم معصمون عن الخطأ والنسيان
وهذه الفرقة قد ثبت عندها صحة كثير من الأحاديث التي ردتها الفرقة الثانية وهي المفرطة في أمر الحديث كما ثبت عندها عدم صحة كثير من الأحاديث التي قبلتها الفرقة الأولى وهي المفرطة فيه وهذه الفرقة هي أوسط الفرق وأمثلها وأقربها للامتثال وهي أقل الفرق عددا ومقتفى أثرها ممن أريد به رشدا
ملحة من ملح هذا المبحث أخرج البخاري تعن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منها في ذات الله قوله ( إني سقيم ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) واحدة في شأن سارة قال شراحه إنما أطلق عليه الكذب تجوزا وهو من باب المعاريض المحتملة للأمرين لمقصد شرعي

وقد روى البخاري في الأدب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن الحصين إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب فأطلق الكذب على ذلك مع ونه من المعاريض نظرا لعلو مرتبته
وقد أنكر بعض المفسرين من المتكلمين هذا الحديث بناء على ما أسسوه في كتب الكلام فقال في تفسير قوله تعالى ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) ذكر قوله إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم وقال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم كذب ورووا حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فقلت لبعضهم هذا الحديث

لا ينبغي ان يقبل لأن فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم فقال ذلك لارجل كيف يحكم بكذب الرواة العدول فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بكونه كذبا خبرا شبيها بالكذب ا هـ
اعتراضات على الحد المذكور للحديث الصحيح مع الجواب عنها الاعتراض الأول قال الحافظ السيوطي في التدريب أورد عليه التواتر فإنه صحيح قطعا ولا يشترط فيه مجموع من الشروط قال شيخ الإسلام ولكن يمكن أن يقال هل يوجد حديث متواتر لم تجتمع فيه هذه الشروط ا هـ
أقول قد وجد ذلك فيما ذكر ابن حم وقد نقلنا ذلك فيما مضى وهو قال علي وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول قل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح وهي منقولة نقل الكافة
على ان في هذا الإيراد نظرا لأن المتواتر يجب أن لا يدخل حد الصحيح المذكور لوجهين
الأول ما سبق من أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر لاستغنائه بالتواتر عن إيراد سند له حتى إنه إذا اتفق له سند لم يبحث عن أحوال رواته فقول المحدثين إن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف يريدون به الحديث المروي من طريق الآحاد وأما المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة وقد ألحق بعضهم المستفيض بالمتواتر في ذلك

الثاني ما ذكروا من انهم إذا قالوا هذا صحيح فإنما يريدون بلك أنه مستوف لشروط الصحة ولا يريدون بذلك أنه صحيح في نفس الأمر
قال الحافظ ابن الصلاح ومتى قالوا هذا صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس المر إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول وكذلك إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور
والصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك ثم إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها وينقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاضر ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق ا هـ
هذا وليس في عبارة ابن الصلاح المذكور أولا ما يوجب خروج المتواتر لكونه مقطوعا به عن الصحيح المذكور لأنه لم يقل ومن شرط الصحيح أن لا يكون مقطوعا به في نفس الأمر بل قال وليس من شرط الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر وهي عبارة لا تنافي أن يكون في الصحيح المذكور ما يكون مقطوعا به في نفس الأمر وبهذا تعلم أن لا تنافي بين ما قاله هنا وبين ما قاله فيما بعد وهو أن الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم مقطوع بصحته ما توهم ذلك بعض الحفاظ
ومن الغريب محاولة شيخ الإسلام إدخال المتواتر في تعريف الصحيح المذكور مع أنه قاال في شرح النخبة وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل لأنه على

هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث
وقال في موضع آخر في تعريف الصحيح لذاته وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته فأدخل في التعريف ما يخرج به المتواتر قطعا وأما تعريف الجمهور فإنه يمكن دخول المتواتر فيه لو لم يصرحوا بأنهم لم يقصدوا دخوله فيه لو لم يصرحوا بأنهم لم يقصدوا دخوله فيه وما ذكر من أنه قد وجد في المتواتر ما لا سند له أصلا أو ما له سند ولكن فيه مقال قد يقال إنه نادر وخروج الصور النادرة من التعريف قد أجازه بعض العلماء
هذا وقد وقع لبعض من كتب في هذا الفن وهو فيه ضعيف أن قال قد توهم بعض الأفاضل من قولهم في تعريف المتواتر إنه خبر جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب أنه لا يكون إلا صحيحا وليس كذلك في الاصطلاح بل منه ما يكون صحيحا اصطلاحا بأن يرويه عدول عن مثلهم وهكذا من ابتدائه إلى انتهائه ومنه ما يكون ضعيفا كما إذا كان في بعض طبقاته غير عدل ضابط فهذا ليس بصحيح اصطلاحا وإن كان صحيحا بمعنى انه مطابق للواقع باعتبار أمن تواطئ نقلته على الكذب وعبارة التقريب فيه صريحة فيما ذكرناه إذ جعله قسما من المشهور وقسمة إلى صحيح وغيره أي حسن وضعيف فتبصر ا هـ
أقول يكفي المتبصر أن يرجع إلى وجدانه وأقرب إليه من ذلك أن ينظر في عبارة التقريب التي نقلناها عنه آنفا وليت هذا الناقل اقتفى أثر ذلك الفاضل

الاعتراض الثاني قد تقرر أن الحسن إذا روي من غير وجه انتقل من درجة الحسن إلى درجة الصحة وهو غير داخل في الحد المذكور وكذلك ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول فإن بعض العلماء له بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح
قال ابن عبد البر في الاستذكار لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر هو الطهور ماؤه وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده لكن الحديث عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول وقال أبو الحسن بن الحصار في تقريب المدارك على موطأ مالك قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به
وأجيب عن ذلك بأن الحد المذكور إنما هو للصحيح لذاته وما أورد فهو من قبيل الصحيح لغيره
الاعتراض الثالث من شرط الحديث الصحيح أن لا يكون في المنكر فحقهم أن يزيدوا في الحد ما يخرج به المنكر وأجيب عن لك بأن الناس في المنكر فريقان فريق يقول إنه هو والشاذ سيان وعلى ذلك فلا إشكال وفريق يقول إن المنكر أسوأ حالا من الشاذ وعلى ذلك يقال إن اشتراط نفي الشذوذ يقتضي اشتراط نفيه بطريق الأولى
وقد تبين بما ذكرنا أن هذا الحد لا يرد عليه شيء ومما يستغرب في هذا الحد أنه

يمكن أن يوافق أكثر الفرق التي زادت بعض الشروط كالجبائي ومن نحا نحوه مثلا فإنه لا يقول بصحة الحديث إذا انفرد به واحد ولو في طبقة واحدة من الطبقات إلا أن يعضد الحديث عاضد مما ذكر سابقا فإذا استعمل هذا الحد أخرج ما انفرد به واحد من غير أن يكون له عاضد بقوله من غير شذوذ وفسر الشذوذ بما يوافق ما ذهب إليه مع ان الجمهور يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة لمن هو أرجح منه وكمن يشترط في صحة الحديث أن لا يكون الراوي قد عمل بخلافة بعد روايته له فإذا استعمل هذا الحد أخرج الحديث الذي عمل الراوي له بخلافه بقوله ولا علة وجعل من العلل القادحة مخالفة عمل الراوي لما رواه
وإن أردت إيراد حد يدخل فيه الصحيح لغيره يمكنك أن تقول الحديث الصحيح هو الحديث الذي اتصل إسناده على وجه تسكن إليه النفس مع السلامة من الشذوذ والعلة وإن أردت أجمع منه يمكنك أن تقول الحديث الصحيح هو الحديث المروي على وجه تسكن إليه النفس من الشذوذ والعلة
فوائد تتعلق بمبحث الصحيح
الفائدة الأولى
في أن من ألف في الصحيح المجرد هو البخاري ومسلم أول من صنف في الصحيح المجرد الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي وتلاه الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري وكان مسلم مم أخذ عن البخاري واستفاد منه وهو مع ذلك يشاركه في أكثر شيوخه وكتاباهما أصح كتب الحديث
وأما قول الإمام الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك فإنه كان قبل وجود كتابيهما
وأما قول بعضهم إن مالكا أول من صنف في الصحيح فهو مسلم غير أنه

لم يقتصر في كتابه عليه بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف كما ذكره الحافظ ابن عبد البر فهو لم يجرد الصحيح
واعترض بعضهم على ذلك فقال إن مثل ذلك قد وقع في كتاب البخاري قال الحافظ ابن حجر إن كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما لا على الشرط الذي تقدم التعريف به
قال والفرق بين ما فيه من المنقطع وبين ما في البخاري أن الذي في الموطأ هو مسموع لمالك كذلك غالبا وهو حجة عنده والذي في البخاري قد حذف إسناده عمدا لقصد التخفيف إن كان ذكره في موضع آخر موصولا أو لقصد التنويع إن كان على غير شرطه ليخرجه عن موضوع كتابه وإنما يذكر ما يذكر من ذلك تنبيها أو استشهادا أو استئناسا أو تفسيرا لبعض آيات أو غير ذلك مما سيأتي عند الكلام على التعليق فظهر بهذا أن الذي في البخاري لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ
الفائدة الثانية
في شرط البخاري ومسلم ألف الحازمي كتابا في شروط الأئمة ذكر فيه شرط الشيخين وغيرهما فقال مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضا وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزم إخراجه وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه لا في الشواهد والمتابعات وهذا باب فيه غموض وطريقة معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم ولنوضح ذلك بمثال

وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها
فالأولى في غاية الصحة نحو مالك وابن عيينة ويونس وعقيل ونحوهم وهي مقصد البخاري
والثانية شاركت الأولى في العدالة غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري حتى كان منهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر والثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى كالليث بن سعد والأوزاعي والنعمان بن راشد وهو شرط مسلم والثالثة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح فهم بين الرد والقبول كجعفر بن برقان وسفيان بن حسين السلمي وزمعة بن صالح المكي وهم شرط أبي داود والنسائي
والرابعة تقوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري لأنهم لم يلازموه كثيرا كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي والمثنى بن الصباح وهو شرط الترمذي
والرابعة قوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري لنهم لم يلازموه كثيرا كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي والمثنى بن الصباح وهم شرط الترمذي

والخامسة نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود فمن دونه فأما عند الشيخين فلا كبحر بن كنيز السقاء والحكم بن عبد الله الأيلي
وقد يخرج البخاري أحيانا عن أعيان الطبقة الثانية ومسلم عن أعيان الطبقة الثالثة وأبو داود عن مشاهير الرابعة وذلك لأسباب اقتضته
وقال ابن طاهر شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة رجاله إلى الصحابي المشهور قال العراقي وليس ما قاله بجيد لأن النسائي

ضعف رجالا أخرج لهم الشيخان او أحدهما وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين
قال الحافظ ابن حجر تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك وإن نقله عن متقدم فلا قال ويمكن أن يجاب بان نما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه
وسئل العلامة تقي الدين بن تيمية عن مسائل وهي ما معنى إجماع العلماء وإذا أجمعوا فهل يسوغ للمجتهد مخالفتهم وهل قول الصحابي حجة وما معنى الحسن والمرسل والغريب من الحديث وما معنى قول الترمذي حديث حسن صحيح غريب فقد جمع بين الحسن والصحة والغرابة في حديث واحد وهل في الحديث متواتر لفظا وهل أحاديث الصحيحين تفيد اليقين أو الظن وما شرط البخاري ومسلم فإنهم قد فرقوا بينهما
فأجاب عنها وقال في الجواب عن المسألة الخبيرة التي نحن الآن في صدد البحث عنها بما صورته
واما شرط البخاري ومسلم فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم ولهذا رجال يروي عنهم يتص بهم وهما مشتركان في رجال آخرين وهؤلاء الذين اتفقا عليهم عليهم مدار الحديث المتفق عليه وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به
وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ في فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الحديث وليس الأمر كذلك فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن كيحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري صاحب الصحيح والدارقطني وغيرهم وهذه علوم يعرفها أصحابها ا هـ

وأما ما أشار إليه الحاكم من انهما لم يخرجا حديث من لم يرو عنه إلا راو واحد فقد سبق ما قيل فيه وأنه مخالف للواقع
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب ولم يرو عنه غير ابنه سعيد
وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب ني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي ولم يرو عنه غير الحسن
وحديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي يذهب الصالحون ولم يرو عنه غير قيس
وأخرج مسلم حديث رافع بن عمرو الغفاري ولم يرو عنه غير عبد الله بن

الصامت وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير أبي سلمة ونظائر ذلك في الصحيحين كثيرة
وقد تعرض الحافظ السيوطي في التوشيح لبيان شروط البخاري وموضوع كتابه فأحببت إيراده بتمامه لما فيه من الفوائد المهمة قال في أوله
فصل في بيان شروط البخاري وموضوعه اعلم أن البخاري لم يوجد عنده تصريح بشرط معين وغنما أخذ ذلك من تسمية الكتاب والاستقراء من تصرفه
أما أولا فإنه سماه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه
فعلم من قوله الجامع أنه لم يخصه بصنف دون صنف ولهذا أورد فيه الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية والآتية وغير ذلك من الآداب والرقائق
ومن قوله الصحيح أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده وإن كان فيه مواضع

قد انتقدها غيره فقد أجيب عنها وقد صح عنه أنه قال ما أدخلت في الجامع إلا ما صح
ومن قوله المسند أن مقصوده الأصلي الأحاديث التي اتصل إسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم سواء كانت من قوله أم فعله أم تقريره وأما ما قع في الكتاب من غير ذلك فإنما وقع عرضا وتبعا لا أصلا مقصودا
وأما ما عرف بالاستقراء من تصرفه فهو أنه يخرج الحديث الذي اتصل إسناده وكان كل من رواته عدلا موصوفا بالضبط فإن قصر احتاج إلى ما يجبر ذلك التقصير وخلا عن أن يكون معلولا أي فيه علة خفية قادحة أو شاذا أي خالف رواته من هو أكثر عددا منه أو أشد ضبطا مخالفة تستلزم التنافي ويتعذر معه الجمع الذي لا يكون فيه تعسف
والاتصال عندهم أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصفة صريح في السماع منه كسمعته وحدثني وأخبرني أو ظاهرة فيه كعن أو أن فلانا قال وهذا الثاني في غير المدلس الثقة أما هو فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى وشرط حمل الثاني على السماع عند البخاري أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة
وعرف بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يخرج لهم أنه ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه وإن أخرج من حديث من لا يكون بهذه الصفة فإنما يخرج في المتابعات أو حيث تقوم له قرينة بأن ذلك مما ضبطه هذا الراوي فبمجموع ذلك وصف الأئمة كتابا قديما زحديثا بأنه أصح الكتب المصنفة في الحديث
وأكثر ما فضل كتاب مسلم عليه أن يجمع المتون في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب ويسوقها تامة ولا يقطعها في التراجم ويحافظ على الإتيان بألفاظها ولا يروي بالمعنى ويفردها ولا يخلط معها شيئا من أقوال الصحابة ومن بعدهم

وأما البخاري فإنه يفرقها في الأبواب اللائقة بها لكن ربما كان ذلك الحديث ظاهرا وربما كان خفيا فالخفي ربما حصل تناوله بالاقتضاء أو باللزوم أو بالتمسك بالعموم أو بالرمز إلى مخالفة مخالف أو بالإشارة إلى أن بعض طرق ذلك الحديث ما يعطي المقصود وإن خلا عنه لفظ المتن المسوق هناك تنبيها على ذلك المشار إليه بذلك وأنه صالح لأن يحتج به وإن كان لا يرتقي إلى درجة شرطه
واحتاج لذلك أن يكرر الأحاديث لأن كثيرا من المتون تشمل على عدة أحكام فيحتاج أن يذكر في كل باب ما يليق به من حكم ذلك الحديث بعينه فإن ساقه بتمامه إسنادا ومتنا طال وإن أهمله فلا يليق به فتصرف فيه بوجوه من التصرف
وهو أنه ينظر الإسناد إلى غاية من يدور عليه الحديث من الرواة أي ينفرد بروايته فيخرجه في باب عن راو يرويه عن ذلك المنفرد وفي باب آخر عن راو آخر عن ذلك المنفرد وهلم جرا فإن كثرت الأحكام عن عدد الرواة عدل عن سياقه تمام الإسناد إلى اختصاره مطلقا فيسوق المتن تارة تاما وتارة مختصرا
ثم إنه حال تصنيفه كان قد بسط التراجم والأحاديث فجعل لكل ترجمة حديثا وبقيت عليه تراجم لم يجد في الحالة الراهنة ما يلائمها فأخلاها عن الحديث وبقيت عليه أحاديث لم يتضح له ما يرتضيه في الترجمة عنها فجعل لها أبوابا بلا تراجم فيوجد فيه أحيانا باب تراجم وليس فيه سوى آية أو كلام الصحابي أو التابعي وأحيانا باب غير مترجم وقد ساق فيه حديثا أو أكثر
نقل ذلك أبو ذر الهروي عن المستملي وأشار إلى أن بعض من نقل الكتاب بعد موت مصنفه ربما ضم بابا مترجما إلى حديث غير مترجم وأخلى البياض الذي بينهما فيظن بعض الناس أن هذا الحديث يتعلق بالترجمة التي قبلها فيجعل لها وجوها من المحامل المتكلفة ولا تعلق له به البتة ا هـ

وقد أوضح الحافظ ابن حجر ما ذكر في آخر هذا الفصل فقال في مقدمة شرحه وقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة وفي بعضها ما فيه واحد وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله وبعضها لا شيء فيه البتة وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدا وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم له ومن ثم وقع من بعض من نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب فأشكل فهمه على الناظر فيه
وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال أخبرني الحافظ أبو ذر عبد بن أحمد الهروي قال حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض
قال أبو الوليد الباجي مما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشميهيني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلك

بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة انه من موضع ما فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث
قال الباجي وغنما اوردت هذا هنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ انتهى
قلت هذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدا ستظهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى
ثم ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على أطوار
إن وجد حديثا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي وافق شرطه أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلح لموضوع كتابه وهي حدثنا وما قام مقام ذلك والعنعنة بشرطها عنده
وإن لم يجد فيه إلا حديثا لا يوفق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه ومن ثم أورد التعاليق كما سيأتي في فصل حكم التعليق
وإن لم يجد فيه حديثا صحيحا لا على شرط غيره وكان مما يستأنس به ويقدمه قوم على القياس استعمل لفظ ذلك الحديث أو معناه ترجمة باب ثم أورد في ذلك إما آية من كتاب الله تشهد له أو حديثا يؤيد عموم م دل عليه ذلك الخبر وعلى هذا فالأحاديث التي فيه على ثلاثة أقسام ا هـ

وقد أشكلت عبارة الباجي على بعض الناس فقال وهذا الذي قاله الباجي فيه نظر من حيث إن الكتاب قرئ على مؤلفه ولا ريب أنه لم يقرأ عليه إلا مرتبا مبوبا فالعبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها
وفي هذا النظر نظر لأن الباجي لم يذكر أن الكتاب كان غير مبوب ولا مرتب بل ذكر أنه يوجد في بعض المواضع منه تراجم ليس بعدها شيء وأحاديث للم يترجم لها وهي كما قال الحافظ مواضع قليلة جدا والكتاب على هذه الصفة يمكن قراءته وأخذه بالرواية
فإن قلت كيف يفعل إذا ول إلى ترجمة ليس بعدها شيء قلت هنا احتمالان أحدهما أن يترك قراءة الترجمة والثاني أن يقرأها ويشير إلى أنه لم يجد إلى ذلك الوقت ما يناسبها فإن قلت فلم لا يضرب عليها قلت إن كثيرا من المؤلفين مثل ذلك ويأملون أن يجدوا بعد حين ما يناسب الترجمة على ان كثيرا من المؤلفات التي قرئت على مؤلفيها لا تخلو عن بياض
وأما الأحاديث التي لم يترجم لها فالأمر فيها سهل فإنه يمكن أن يجعل عنوان الترجمة باب ويذكر بعده الحديث الذي بم يجعل له ترجمة خاصة ولا يحتمل هنا عدم قراءته لأن المقصود الأول في كتابه هو معرفة الأحاديث الصحيحة
وقد وقع في البخاري كثيرا ذكر لفظ باب وليس بعده شيء فمن ذلك في كتاب الإيمان باب حدثنا أبو اليمان قال الشراح باب التنوين بغير ترجمة ولفظ الباب ساقط عند الأصيلي وحينئذ فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة وعلى رواية إثباته فهو كالفصل عن سابقه لتعلقه به وفي الحديث السابق بيان أن حب الأنصار من الإيمان وفي الحديث اللاحق الإشارة إلى سبب تلقيبهم بالأنصار لأن ذلك كان ليلة العقبة لما بايعوا على إعلاء كلمة الله وكان يقال لهم بنو قيلة وقيلة بالفتح الأم التي كانت تجمع القبلتين ا هـ
واعلم أن صحيح مسلم قد قرئ على جامعه مع خلو أبوابه عن التراجم

قال شارحه إن مسلما رتب كتابه على الأبواب فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لنم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد حجم الكتاب أو لغير ذلك وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيد وبعضها ليس بجيد إما لقصور في عبارة الترجمة أو لركاكة في لفظها وإما لغير لك وأنا أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها
وأما قول ذلك القائل إن العبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها فالجواب أن الرواية إنما تلقيت من نسخ الأصول المأخوذة تلك المسودة وهي في الحقيقة مبيضة
الفائدة الثالثة
في أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك قد ظن أناس انهما قد التزما ان يخرجا كل ما صح من الحديث في كتابيهما فاعترضوا عليهما بأنهما لم يقوما بما التزما به وليس الأمر كذلك
فقد روي عن البخاري أنه قال ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت جملة من الصحاح خشية أن يطور الكتاب
وروي عن مسلم أنه لما عوتب على ما فعل من جمع الأحاديث الصحاح في كتاب وقيل له إن هذا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في الصحيح قال إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح ولم أقل إن لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف وإنما أخرجت هذا الحديث من الصحيح ليكون عندي وعند من يكتبه عني ولا يرتاب في صحته
وقد رفع بذلك العتب ولسان حاله يقول إلام على ما يوجب الحب

ومن الغريب أن بعض الناس لنفرته من تجريد الصحاح صرح بتفضيل سنن النسائي على صحيح البخاري وقال إن من شرط الصحة فقد جعل لمن لم يستكمل في الإدراك سببا إلى الطعن على ما لم يدخل وجعل للجدال موضعا فيما أدخل
وهو قول شاذ لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولو لم يكن الناقل عن هذا القائل وأمثاله ممن يوثق بنقله لشك اللبيب في صدور ذلك عمن له أدنى سهم في الفهم وكانهم لم يشعروا بما نشأ عن مزج الصحيح بغيره من الضرر الذي حصل لكثير من الناس
وليتهم نظروا في مقدمة كتاب مسلم نظرة ليقفوا على الباعث لتجريد الصحيح لعلهم يسكتون فيسكت عنهم ولكن الميل إلى الإغراب غريزة في بعض النفوس
والمقصود هنا قول مسلم وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم ن طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأخبار الصيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغنياء من الناس وهو مستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف عل قلوبنا إجابتك إلى ما سألت ا هـ
وقد نقلنا فيما سبق مقالة أخرى في ذم هذه الفرقة قال في آخرها ومن

ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم
وبما ذكرنا من عدم التزامهما إستيعاب الأحاديث الصحيحة أجمع يظهر لك أن لا وجه لإلزام من ألزمهما إخراج أحاديث لم يخرجاها مع كونها صحيحة على شرطيهما قال في شرح مسلم ألزم الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وغيره البخاري ومسلما رضي الله عنهما إخراج أحاديث تركا إخراجهما مع أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها في صحيحهما بها
وذكر الدارقطني وغيره وغيره أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فليزمهما إخراجهما على مذهبيهما
وذكر البيهقي أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه وأن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها مع ان الإسناد واحد وصنف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما
وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة إنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعبا وإنما قصد جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله
لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلا في بابه ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالهما أنهما اطلعا

فيه على علة إن كانا روياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانا أو إيثارا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أو لغير ذلك والله أعلم
والظاهر أن المعترضين عليهما في ذلك لم يبلغهم تصريحهما بما ذكر ومنهم ابن حبان فإنه قال ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما
وقال بعضهم لعل شبهة المعترضين نشأت من تسمية البخاري كتابه بالجامع وهي شبهة واهية لا سيما إن نظر إلى تتمة الاسم وقد عرفت سابقا أنه سماه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه وأما الحاكم فإنه الحاكم فإنه اقتصر على ان قال ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشتمون برواة الآثار ويقولون إن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث
وقد اختلف العلماء في مقدار ما فاتهما من جهة القلة والكثرة فقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم شيخ الحاكم قلما يفوت البخاري ومسلما مما يثبت من الحديث ويرد على ذلك قول البخاري فيما نقله الحازمي والإسماعيلي وما تركت من الصحاح أكثر
وقال لانووي قد فاتهما كثير والصواب قول من قال إنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير
والأصول الخمسة هي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي
وقد جعل بعضهم الأصول ستة بضم سنن ابن ماجة إليها قيل أول من فعل ذلك ابن طاهر المقدسي فتابعه أصحال الأطراف والرجال على ذلك وتبعهم

غيرهم وإنما لم تذكر هنا لما قال المزي وهو ان كل ما انفرد به ابن ماجة عن الخمسة فهو ضعيف قال الحسيني يعني من الأحاديث وقال ابن حجر إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة فالأولى حمل الضعف على الرجال
وقد جمع مجد الدين ابن الأثير الأصول الخمسة في كتاب وضم إليها موطأ الإمام مالك حتى صارت بذلك ستة وسماه جامع الأصول من حديث الرسول فصار الوصول إلى هذه الأصول سهل المسلك قريب المدرك
والمراد بسنن النسائي هنا هي الصغرى لما روي أنه لما صنف الكبرى أهداها لأمير الرملة فقال له أكل ما فيها صحيح فقال فيها الصحيح والحسن وما يقاربهما فقال ميز لي الصحيح من غيره فصنف له الصغرى وسماها المجتبى من السنن
ويرد على ما ذكر النووي أيضا قول البخاري فيما نقل عنه أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح والأحاديث التي في الأصول الخمسة لا تبلغ خمسين ألفا فضلا عن ان تقرب من مئة ألف فيكون ما فاتها من الصحيح كثير جدا
قال بعض أهل الأثر إن كثيرا من المتقدمين كانوا يطلقون اسم الحديث على ما يشمل آثار الصحابة والتابعين وتابعيهم وفتاويهم ويعدون الحديث المروي بإسنادين حديثين وحينئذ يسهل الخطب وكم من حديث ورد من مئة طريق فأكثر

وهذا حديث إنما الأعمال بالنيات نقل مع ما فيه عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي أنه كتبه من جهة سبع مئة من أصحاب يحيى بن سعيد وقال الإسماعيلي عقب قول البخاري لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر إنه لو أخرج كل حديث صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة ولذكر طرق كل واحد منهم إذا صحت فيصير كتابا كبيرا جدا
وقال الجوزقي إنه استخرج على أحاديث الصحيحين فكانت عدة الطرق خمسة وعشرين ألف طريق وأربع مئة وثمانين طريقا
قال بعض المحققين وإذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ جملة ما في كتابيهما بالمكرر ذلك فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ ذلك أيضا أو يزيد وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي شرطهما لعله يبلغ

ذلك أو يقرب منه فإذا أضيف ذلك إلى ما جاء عن الصحابة والتابعين بلغ العدة التي يحفظها البخاري بل ربما زادت
وهذا الحمل متعين وإلا فلو عدت أحاديث المسانيد والجوامع والسنن والمعاجم والفوائد والأجزاء وغيرها مما هو بأيدينا صحيحهما وغيره ما بلغت ذلك بدون تكرار بل ولا نصفه ا هـ
وقال بعضهم ويؤيد ان هذا هو المراد أن الأحاديث التي بين أيدينا من الصحاح بل وغير الصحاح ولو تتبعت من المسانيد والجوامع والسنن والأجزاء وغيرها ما بلغت مئة ألف بلا تكرار بل ولا خمسين ألفا وتبعد كل البعد أن يكون رجل واحد يحفظ ما فات الأمة جميعه مع انه إنما حفظه من أصول مشايخه وهي موجودة ا هـ
وقد تبين بما ذكر أن ما قاله البخاري لا ينافي ما قاله ابن الخرم فضلا عما قاله النووي على ان بعضهم حمل كلام ابن الأخرم فيما فاتهما على الصحيح المجمع عليه فكأن قال لم يفتهما من الصحيح الذي هو في الدرجة الأولى إلا القليل والأمر كذلك والأحاديث التي هي في الدرجة الأولى لا تبلغ كما قال الحاكم عشرة آلاف
تتمة في بيان عدد أحاديث الصحيحين قال الحافظ ابن الصلاح جملة ما في صحيح البخاري سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث قال الحافظ العراقي هذا مسلم في رواية الفربري وأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمئتي حديث ودون ذلك هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل

قال الحافظ ابن حجر إن عدة أحاديث البخاري في روايات الثلاث سواء وغنما حصل الاشتباه من جهة أن الأخيرين فاتهما من سماع الصحيح على البخاري ما ذكر من آخر الكتاب فروياه بالإجازة فالنقص إنما هو السماع لا في الكتاب
قال والذي تحرر لي أنها بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات والموقوفات سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون حديثا وبغير المكرر من المتون الموصولة ألفان وست مئة وحديثان ومن المتون المعلقة المرفوع التي لم يصلها في موضع آخر منه مئة وتسعة وخمسون فمجموع غير المكرر ألفان وسبع مئة واحد وستون نقل ذلك بعض تلاميذه عنه
وقد نقل بعض العلماء عن الحافظ المذكور حاصل ما قاله في تحرير العدد إلا أن في زيادة بسط فيما يتعلق بالمكرر فأحببت إيراد ذلك على وجه يكون أقرب منالا قال
جملة أحاديث البخاري بالمكرر سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون 7397
وجملة ما فيه من المعلقات وذلك سوى المتابعات وما يذكر بعدها ألف وثلاث مئة وواحد وأربعون حديثا 1341
وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلاث مئة ولأربعة وأربعون حديثا 344
فجملة ما في البخاري المكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون 9082 سوى الموقوفات

=========================

ج2. ج2.كتاب : توجيه النظر إلى أصول الأثر طاهر الجزائري الدمشقي


على الصحابة والمقطوعات الواردة عن التابعين فمن بعدهم
وعدد كتب البخاري مئة وشيء وعدد أبوابه ثلاثة آلاف وأربع مئة وخمسمون بابا مع اختلاف قليل في نسخ الأصول
وأما صحيح مسلم فجملة ما فيه بإسقاط المكرر نحو أربعة آلاف حديث قال في شرح مسلم قال الشيخ أبو عمرو يعني ابن الصلاح روينا عن أبي قريش الحافظ قال كنت عند أبي زرعة الرازي فجاء مسلم بن الحجاج فسلم عليه وجلس ساعة وتذاكرا فلما قام قلت له هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح قال أبو زرعة فلمن ترك الباقي قال الشيخ أراد أن كتابه هذا أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات ا هـ
قال العراقي وهو يزيد على البخاري بالمكرر لكثرة طرقه قال ورأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنه قال إنها اثنا عشر ألف حديث وقال أبو حفص المياجي إنها ثمانية آلاف قال بعض الباحثين في ذلك ولعل هذا أقرب إلى الواقع مما قبله
وأحمد بن سلمة ممن روى عن مسلم قال النووي في شرح كتابه روى عنه جماعات من كبار أئمة عصره وحفاظه وفيهم جماعات في درجته فمنهم أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن سلمة وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر بن خزيمة ويحيى بن صاعد وأبو عوانة الإسفرائني وآخرون لا يحصون ثم قال قال الحاكم أبو عبد الله حدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم قال سمعت أحمد بن سلمة يقول رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما وفي رواية في معرفة الحديث


الفائدة الرابعة
فما انتقد عليهما والجواب عن ذلك قال النووي في شرح مسلم قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه وقد سبقت الإشارة إلى هذا وقد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن عل بن عمر الدارقطني في بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع وذلك في مئتي حديث مما في الكتابين ولأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهما استدراك ولأبي علي الغساني الحياني في كتابه تقييد المهمل في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة وفيه ما يلزمهما وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره وستراه في مواضعه ا هـ
وقال الحافز ابن حجر في الفصل الثامن من المقدمة ينبغي لكل مصنف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها وارد من جهة أخرى وهي ما أدعاه الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من الإجماع على تلقي هذا الكتاب بالقبول والتسليم لصحة جميع ما فيه فإن هذه المواضع متنازع في صحتها فلم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب وقد نعرض لذلك ابن الصلاح في قوله إلى مواضع يسيرة انتقدها عليه الدارقطني وغيره وقال في مقدمة شرح مسلم له ما أخذ عليهما يعني على البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول انتهى وهو احتراز حسن
وقد أحببت أن أورد من هذا الفصل المهم على طريق التلخيص ما يمكن الطالب من الإشراف على هذه النوع الذي هو من أهم الأنواع عند المعروفين في

هذا الفن بالنقد والتمييز ومن أراد الاستيفاء فليرجع إلى الأصل قال أجزل الله ثوابه
اعلم أن الجواب عما يتعلق سهل لأن وضع الكتابين إنما هو للمسندات والمعلق ليس بمسند ولهذا لم يتعرض الدارقطني فيما تتبعه على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة التي لم توصل في موضع آخر لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتاب وغنما ذكرت استئناسا واستشهادا
وقد ذكرنا الأسباب الحاملة للمصنف على تخريج ذلك التعليق وأن مراده بذلك أن يكون الكتاب جامعا لأكثر الأحاديث التي يحتج بها إلا أن منها ما هو على شرطه فساقه سياق الأصل ومنها ما هو على غير شرطه فغاير السياق في إيراده ليمتاز فانتفى إيراد المعلقات وبقي الكلام فيما علل من الأحاديث المسندات
وعدة ما اجتمع لنا من ذلك مما في كتاب البخاري وغن شاركه مسلم في بعضه مئة وعشرة أحاديث منها ما وافقه مسلم على تخريجه وهو اثنان وثلاثون حديثا ومنها انفرد بتخريجه وه ثمانية وسبعون حديثا
والأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم ستة أقسام
القسم الأول منها ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد
القسم الثاني ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد
القسم الثالث منها ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه عمن هو اكثر عددا أو أضبط
القسم الرابع منها ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف
القسم الخامس منها ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله
القسم السادس منها ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن

وهذا أكثره لا يترتب عليه قدح لإمكان الجمع في المختلف من ذلك أو الترجيح على ان الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين كما تعرضوا لذلك في الإسناد
فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح وهذا حين الشروع في إيرادها على ترتيب ما وقع في الأصل لتسهل مراجعتها وقد اوردنا نحن من ذلك ما يكفي لمطالع كتابنا هذا
في كتاب الصلاة 1 - قال الدارقطني أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة
وهذا مما ينتقد به على مالك لأنه رفعه وقال فيه إلى قباء وخالفه عدد كثير منهم شعيب بن أبي حمزة وصالح بن كيسان وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد ومعمر والليث بن سعد وابن أبي ذئب وآخرون انتهى
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك وموضع التعقب منه قوله إلى قباء والجماعة كلهم قالوا إلى العوالي ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة ا هـ
أقول وقد أخرج البخاري ذلك في باب وقت العصر وقال في الرواية

المحفوظة حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه
وأخرج مسلم ذلك في باب استحباب التبكير بالعصر وقال في الرواية المحفوظة حدثنا قتيبة بن سعيد قال أنبأنا الليث - ح - وحدثنا محمد بن رمح قال أنبأنا الليث بن شهاب عن أنس بن مالك انه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتي العوالي والشمس مرتفعة لم يذكر قتيبة فيأتي العوالي ا هـ وابن شهاب هو الزهري
2 -
قال الدارقطني أخرجا جميعا حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يحل لامرأة تسافر وليس معها محرم قال الدارقطني وقد رواه مالك ويحيى بن أبي كثير وسهيل عن سعيد عن أبي هريرة يعني لم يقولوا عن أبيه
قلت لم يهمل البخاري حكاية هذا الاختلاف بل ذكره عقب حديث ابن أبي ذئب
والجواب عن هذا الاختلاف كالجواب عن الحديث الثاني فإن سعيدا المقبري سمع من أبيه عن أبي هريرة وسمع من أبي هريرة فلا يكون هذا الاختلاف قادحا وقد اختلف فيه على مالك فرواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث بشر بن عمر عنه عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة وقال بعده لم يقل أحد من أصحاب مالك في هذا الحديث عن سعيد عن أبيه غير بشر بن

عملا ا هـ وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه من حديث بشر بن عمر أيضا وصحح ابن حبان الطريقين معا والله اعلم
أقول أخرج البخاري هذا الحديث في باب في كم تقصر الصلاة فقال حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة تابعه يحيى بن أبي كثير وسهيل ومالك عن المقبري عن أبي هريرة ا هـ وقوله حرمة بضم الحاء وسكون الراء أي رجل ذو حرمة منها بنسب أو غيره
في كتاب الجنائز 3 - قال الدارقطني أخرج البخاري حديث داود بن أبي الفرات عن ابن بريدة عن أبي الأسود عن عمر مر بجنازة فقال وجبت الحديث وقد قال علي بن المديني إن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود ولم يقل في هذا الحديث سمعت أبا الأسود
قال الدارقطني وقلت أنا وقد رواه وكيع عن عمر بن الوليد الشني عن ابن بريدة عن عمر ولم يذكر بينهما أحد انتهى
ولم أره إلى الآن من حديث عبد الله بن بريدة إلا العنعنة فعلته باقية إلا أن يعتذر للبخاري عن تخريجه بأن اعتماده في الباب على حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بهذه القصة سواء وقد وافقه مسلم على تخريجه وأخرج البخاري حديث أبي الأسود كالمتابعة لحديث عبد العزيز بن صهيب فلم يستوف نفي العلة عنه كما يستوفيها فيما يخرجه في الأصول والله اعلم
أقول ذكر البخاري ذلك في باب ثناء الناس على الميت فقال حدثنا

آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال سمعت أنس بن مالك يقول مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه و سلم وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر بن الخطاب ما وجبت قال هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض
حدثنا عفان بن مسلم حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود قال قدمت المدينة وقد وقع بها مرض فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت بهم جنازة فأثنى على صاحبها خيرا فقال عمر وجبت ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها خيرا فقال عمر وجبت ثم مروا بالثالثة فأثنى على صاحبها شرا فقال وجبت فقال أبو الأسود فقلت وما وجبت يا أمير المؤمنين قال قلت كما قال النبي صلى الله عليه و سلم أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخره الله الجنة فقلنا وثلاة قال وثلاثة فقلنا واثنان قال واثنان ثم لم نسأله عن الواحد
في كتاب البيوع 4 - قال الدارقطني وأخرجا جميعا حديث مالك عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى فقيل وما تزهى قال حتى تحمر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه قال الدارقطني خالف مالكا جماعة منهم إسماعيل بن جعفر وابن المبارك وهشيم ومروان بن ماوية ويزيد بن هارون وغيرهم قالوا فيه قال أنس أرأيت إن منع الله الثمرة قال وقد

أخرجا جميعا حديث إسماعيل بن جعفر وقد فصل كلام أنس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم
قلت سبق الدارقطني إلى دعوى الإدراج في هذا الحديث أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وابن خزيمة وغير واحد من أئمة الحديث كما أوضحته في كتابي تقريب المنهج بترتيب المدرج وحكيت فيه عن ابن خزيمة أنه قال رأيت أنس بن مالك في المنام فأخبرني أنه مرفوع وأن معتمر بن سليمان رواه عن حميد مدرجا لكن قال في آخره لا أدري أنس قال بم يستحل أو حدث به عن النبي صلى الله عليه و سلم والأمر في مثل هذا قريب والله اعلم
قال ابن الأثير في النهاية وفيه نهي عن بيع الثمر حتى يزهى وفي رواية حتى يزهو يقال زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته وأزهى يزهي إذا اصفر أو احمر وقيل هما بمعنى الاحمرار والاصفرار ومنهم من أنكر يزهو ومنهم من أنكر يزهي ا هـ
5 -
قال الدارقطني وأخرجا جميعا حديث عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال بلغ عمر بن الخطاب ان سمرة باع خمرا فقال قاتل الله سمرة الحديث وقد رواه حماد بن زيد عن عمرو عن طاوس ان عمر قال وكذلك رواه الوليد بن مسلم عن حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس أن عمر قال
قلت صرح ابن عيينة عن عمرو بسماع طاوس له من ابن عباس وهو أحفظ الناس لحديث عمرو فروايته الراجحة وقد تابعه روح بن القاسم أخرجه مسلم من طريقه ا هـ

قال مسلم في باب تحريم الخمر حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لأبي بكر قال أنبأنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس قال بلغ عمر أن سمرة باع خمرا فقال قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها حدثنا أمية بن بسطام قال أنبأنا يزيد بن زريع قال حدثنا روح يعني ابن القاسم عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد مثله ا هـ
تنبيه هذه الخمر كان سمرة أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم غير عالم بتحريم ذلك
في كتاب الجهاد 6 - قال الدارقطني واخرجا جميعا حديث موسى بن عقبة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا الحديث قال وأبو النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى وإنما رواه عن كتابه فهو حجة في رواية المكاتبة
قلت فلا علة فيه لكنه ينبني على أن شرط المكاتبة هل هو من الكاتب إلى المكتوب إيه فقط ام كل من عرف الخط روى به وإن لم يكن مقصودا بالكتابة إليه الأول هو المتبادر إلى الفهم من المصطلح وأما الثاني فهو عندهم من صور الوجادة لكن يمكن أن يقال هنا إن رواية أبي النضر تكون عن مولاه عمر بن عبيد الله

عن كتاب ابن أبي أوفى إليه ويكون أخذه لذلك عن مولاه عرضا لأنه قرأه عليه لأنه كان كاتبه فتصير والحالة هذه من الرواية بالمكاتبة كما قال الدارقطني
7 -
قال الدارقطني واخرج البخاري حديث محمد بن طلحة عن لأبيه عن مصعب بن سعد قال رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه و سلم هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم قال الدارقططني هذا مرسل قلت صورته صورة المرسل إلا أنه موصول في الأصل معروف من رواية مصعب بن سعد عن أبيه وقد اعتمد البخاري كثيرا من أمثال هذا السياق فأخرجه على أنه موصول إذا كان الراوي معروفا بالرواية عمن ذكره وقد رويناه في سنن النسائي وفي مستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم وفي الحلية لأبي نعيم وفي الجزء السادس من حديث أبي محمد بن صاعد من حديث مصعب بن سعد عن أبيه أنه رأى فذكره وقد ترك الدارقطني أحاديث في الكتاب من هذا الجنس لم يتتبعها
في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 8 - قال الدارقطني أخرج البخاري حديث ابن أبي أويس عن أخيه عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة الحديث قال وهذا رواه إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة
قلت قد علق البخاري حديث إبراهيم بن طهمان في التفسير فلم يهمل

حكاية الخلاف فيه ولكن أعله الإسماعيلي من وجه آخر فقال بعد ان أورده هذا خبر في صحته نظر من جهة أن إبراهيم علام بأن الله لا يخلف الميعاد فكيف يجعل ما بأبيه خزيا له مع خبره بأن الله قد وعده أن لا يخزيه يوم يبعثون وأعلمه بأنه لا خلف لوعده انتهى وسيأتي جواب ذلك في موضعه
في كتاب اللباس 9 - قال الدارقطني اتفقا على إخراج حديث أبي عثمان قال كتب إلينا عمر في الحرير إلى موضع إصبع وهذا لم يسمعه أبو عثمان من عمر لكنه حجة في قبول الوجادة
قلت قد تقدم نظير هذا الكلام في حديث أبي النضر عن ابن أبي أوفى
10 -
قال الدارقطني وأخرج البخاري حديث ثابت عن ابن الزبير قال قال محمد صلى الله عليه و سلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وهذا لم يسمعه ابن الزبير من النبي صلى الله عليه و سلم وإنما سمعه من عمر
قلت هذا تعقب ضعيف فإن ابن الزبير صحابي فهبه أرسله فماذا كان وكم في الصحيح من مرسل صحابي وقد اتفق الأئمة قاطبة على قبول ذلك إلا من شذ ممن تأخر عنهم فلا يعتد بمخالفته والله أعلم

وقد أخرج البخاري حديث ابن الزبير عن عمر تلو حديث ثابت عن ابن الزبير فما بقي عليه للاعتراض وجه
وقال في آخر الفصل هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون على خفايا الطرق وليست كلها من أفراد البخاري بل شاركه مسلم في كثير منها كما تراه واضحا ومرقوما عليه رقم مسلم وهو صورة ( م )
وعدة ذلك اثنان وثلاثون حديثا فأفراده منها ثمانية وسبعون فقط وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع وبعضها الجواب عنها محتمل واليسير منها في الجواب عنه تعسف كما شرحته مجملا في أول الفصل وأوضحته مبنيا إثر كل حديث منها
فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه وعذر الأئمة من اهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم وليسا سواء من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والله المستعان وعليه التكلان
وأما سياق الأحاديث التي لم يتتبعها الدارقطني وهي على شرطه في تتبعه من هذا الكتاب فقد أوردتها في أماكنها من الشرح لتكمل الفائدة مع التنبيه على مواقع الأجوبة المستقيمة كما تقدم لئلا يستدركها من لا يفهم
وإنما اقتصرت على ما ذكرته عن الدارقطني عن الاستيعاب لأني أردت أن

يكون عنوانا لغيره لأنه الإمام المقدم في هذا الفن وكتابه في هذا النوع أوسع وأوعب وقد ذكرت في أثناء ما ذكر ع غيره قليلا على سبيل الأمثلة والله أعلم
وقد أتبع الحافظ ابن حجر هذا الفصل بفصل آخر يناسبه قال في أوله الفصل التاسع في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتبا لهم على حروف المعجم والجواب عن الاعتراضات موضعا موضعا وتمييز من اخرج له منهم في الأصول والمتابعات والاستشهادات مفصلا لذلك جميعه
وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته هذا إذا خرج له في الأصول وأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا تتفاوت درجات من اخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم
وحينئذ فإذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فلذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها لا يقدح وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول في الذي خرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك انه لا يلتفت إلى ما قيل فيه
وأسباب الجرح مختلفة ومدارها على خمسة أشياء البدعة والمخالفة والغلط وجهالة الحال ودعوى الانقطاع في السند بان يدعى في الراوي انه كان يدلس او يرسل
أما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من اخرج لهم في الصحيح لأن شرط

الصحيح أن يكون راويه معروفا بالعدالة فمن زعم ان أحدا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه انه معروف ولا شك أن المدعي لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفته لما مع المثبت من زيادة العلم ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحدا ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلا كما سنبنيه
وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مرويا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذا الطريق وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله وليس في الصحيح من هذا شيء
وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال سيىء الحفظ أو له أوهام أو له مناكير وغير ذلك من العبارات فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك
وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الراوي الضابط الصدوق شيئا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكرا وهذا ليس في الصحيح منه إلا نزر يسير قد بين في الفصل الذي قبله
وأما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن اخرج لهم البخاري لما علم من شرطه ومع ذلك فحكم من ذكر من رجاله بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض وإلا فلا
وأما البدعة فالموصوف بها إما أن يكون ممن يكفر بها أو يفسق فالمكفر بها لا بد ان يكون ذلك التفكير متفقا عليه في قواعد جميع الأئمة كما في غلاة الروافض

من دعوى بعضهم حلول الإلهية في علي أو غيره أو غير ذلك وليس في الصحيح من حديث هؤلاء شيء البتة
وأما المفسق بها كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذلك الغلو وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافا ظاهرا لكنه مستند إلى تأويل ظاهرة سائغ فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث من هذا سبيله إذا كان معروفا بالتحرز من الكذب مشهورا بالسلامة من خوارم المروءة موصوفا بالديانة والعبادة فقيل يقبل مطلقا وقيل يرد مطلقا والثالث التفضيل بين أن يكون داعية إلى بدعته فيرد حديثه أو غير داعية فيقبل وهذا المذهب هو العدل وصارت إليه طرائف من الأئمة وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه لكن في دعوى ذلك نظر انتهى باختصار يسير
وقد أحببت أن أورد من هذا الفصل شيئا ليقف المطالع على مسلكهم في البحث عن حال الرجال الذي هو من أهم المباحث عند أهل الأثر
حرف الألف ( خ د ) أحمد بن صالح المصري أبو جعفر بن الطبري أحد أئمة الحديث الحفاظ المتقنين الجامعين بين الفقه والحديث أكثر عنه البخاري وأبو داود ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فيما نقله عنه البخاري وعلي بن المديني والنميري والعجلي وأبو حاتم وآخرون وكان النسائي سيىء الرأي فيه ذكره مرة فقال ليس بثقة ولا مأمون
وقد ذكر السبب الحامل له على ذلك أبو جعفر العقيلي فقال كان أحمد بن صالح لا يحدث أحدا حتى يسأل عنه فلما أن قدم النسائي مصر جاء إليه وقد صحب

أو بأن يرويه عنه من طريق من لم يسمع منه إلا قبل الاختلاط
ومنها أن يروي في الصحيح عن مدلس بالعنعنة فيرويه المستخرج بالتصريح بالسماع قيل للحافظ المزي هل وجد لكل ما رواه الشيخان بالعنعنة طرق صرح فيها بالتحديث فقال إن كثيرا من ذلك لم يوجد وما يسعنا إلا تحسين الظن
ومنها أن يروي عن مبهم كحدثنا فلان أو رجل أو غير واحد فيعينه المستخرج ومثل ذلك ما إذا وقع في الإسناد حدثنا محمد مثلا من غير ذكر ما يميزه عن غيره وكان في مشايخ من رواه كذلك من يشاركه في الاسم فيميزه المستخرج
ومنها أن يكون في الحديث مخافة لقاعدة اللغة العربية فيتكلف لتوجيهه ويتحمل لتخريجه فيجيء في رواية المستخرج على القاعدة فيعرف بأنه هو الصحيح وأن الذي في الصحيح قد وقع فيه الوهم من الرواة
هذا وقد عرفت سابقا الاستخراج في العرف وهو في الأصل بمعنى الاستنباط ويقال لفاعل ذلك المستخرج بالكسر ويقال للكتاب المؤلف في هذا النوع المستخرج بالفتح وسمي بذلك لاستنباط مؤلفه المتعلقة بأحاديث الكتاب المستخرج عليه وقد يقال له المخرج بالفتح والتشديد كما وقع ذلك في

قوما من أهل الحديث لا يرضاهم أحمد فأبى أن يحدثه فذهب النسائي فجمع الأحاديث التي وهم فيها أحمد وشرع يشنع عليه وما ضره ذلك شيئا واحمد بن صالح إمام ثقة
قال ابن عدي كان النسائي ينكر عليه أحاديث وهو من الحفاظ المشهورين بمعرفة الحديث ثم ذكر ابن عدي الأحاديث التي أنكرها النسائي وأجاب عنها وليس في البخاري مع ذلك منها شيء وقد تبين ان النسائي انفرد بتضعيف أحمد بن صالح بما لا يقبل
(
خ ت س ق ) أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي أبو الأشعث مشهور بكنيته وثقه أبو حاتم وصالح جزرة والنسائي وقال أبو داود لا أحدث عنه لأنه كان يعلم المجان والمجون كان مجان بالبصرة يصرون صرر دراهم فيطرحونها على الطريق ويجلسون ناحية فإذا مر مار بصرة وأراد أن يأخذها صاحوا ضعها ليخجل الرجل فعلم أبو الأشعث المارة وقال لهم هيئوا صرر زجاج كصرر الدراهم فإذا مررتم بصررهم فأردتم أخذها فاطرحوا صرر الزجاج وخذوا صرر الدراهم التي لهم ففعلوا
وتعقب ابن عدي كلام أبي داود هذا فقال لا يؤثر ذلك فيه لأنه من أهل الصدق قلت ووجه عدم تأثيره فيه أنه لم يعلم المجان كما قال أبو داود وإنما علم المارة الذين كان قصد المجان أن يخجلوهم وكأنه كان يذهب مذهب من يؤدب بالمال فلهذا جوز للكارة أن يأخذوا الدرراهم تأديبا للمجان حتى لا يعودوا لتخجيل الناس مع احتمال ان يكونوا بعد ذلك أعادوا لهم دراهمهم والله اعلم وقد احتج به البخاري والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وغيرهم
(
خ ت د ) إسماعيل بن أبان الوراق الكوفي أحد شيوخ البخاري ولم يكثر عنه وثقه النسائي ومطين وابن معين والحاكم أبو أحمد وجعفر الصائغ والدارقطني وقال في رواية الحاكم عنه أثنى عليه أحمد وليس بقوي وقال الجوزجاني كان

مائلا عن الحق ولم يكن يكذب في الحديث قال ابن عدي يعني ما عليه الكوفيون من التشيع
قلت الجوزجاني كان ناصبيا منحرفا عن علي فهو ضد الشيعي ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدع في مبتدع وأما قول الدارقطني فيه د اختلف ولهم شيخ يقال له إسماعيل بن أبان الغنوي أجمعوا على تركه فلعله اشتبه به
حرف الباء ( ع ) بكر بن عمرو أيبو الصديق البصري الناجي مشهور بكنيته وثقه جماعة وقال ابن سعد يتكلمون في أحاديثه ويستنكرونها
قلت ليس له في البخاري سوى حديث واحد عن أبي سعيد في قصة الذي قتل تسعة أو تسعين نفسا من بني إسرائيل ثم تاب واحتج به الباقون
حرف التاء المثناة ( خ م د س ) توبة بن أبي الأسد العنبري البصري من صغار التابعين وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وشذ أبو الفتح الأزدي فقال منكر الحديث
حرف الثاء المثلثة ( ع ) ثور بن زيد المدني شيخ مالك وثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي وغيرهم وقال ابن عبد البر صدوق لم يتهمه أحد وكان ينسب إلى رأي الخوارج والقول بالقدر ولم يكن يدعو إلى شيء ن ذلك وحكى عن مالك أنه سئل كيف رويت عن داود الحصين وثور بن زيد وذكر غيرهما وكانوا يرون القدر فقال كانوا لأن يخروا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا


حرف الجيم ( ع ) جعفر بن إياس أبو بشر بن أبي وحشية مشهور بكنيته من صغار التابعين وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وكان شعبة يقول إنه لم يسمع من مجاهد ولا من حبيب بن سالم وقال أحمد كان شعبة ضعف أحاديثه عن حبيب بن سالم وقال البرديجي هو من أثبت الناس في سعيد بن جبير وقال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به
قلت احتج به الجماعة لكن لم يخرج له الشيخان من حديثه عن مجاهد ولا عن حبيب بن سالم
حرف الحاء ( خ4 ) حريز بن عثمان الحمصي مشهور من صغار التابعين وثقه أحد وابن معين والأئمة لكن قال الفلاس وغيره إنه كان ينتقص عليا وقال أبو حاتم لا أعلم بالشام أثبت منه ولم يصح عندي ما يقال عنه من النصب وثقال البخاري قال أبو اليمان كان حريز يتناول من رجل ثم ترك
قلت هذا أعدل الأقوال فلعله تاب وقال ابن حبان كان داعية إلى مذهبه يجتنب حديثه قلت ليس له عند البخاري سوى حديثين أحدهما في صفة النبي صلى الله عليه و سلم عن عبد الله بن بسر وهو من ثلاثياته والآخر حديثه عبد الواحد النصري عن واثلة بن الأسقع وهو حديث من أفرى الفرى أن

يرى الرجل عينه ما لم تر
حرف الخاء ( خ م ت س ق ) خالد بن مخلد القطواني الكوفي أبو الهيثم من كبار شيوخ البخاري روي عنه وروى عن واحد عنه قال العجلي ثقة فيه تشيع وقال ابن سعد كان متشيعا مفرطا وقال صالح جزرة ثقة إلا أنه كان متهما بالغلو في التشيع وقال احمد بن حنبل له مناكير وقال أبو داود صدوق إلا أنه يتشيع وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به
قلت أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري بل لم أر عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبي هريرة من عادى لي وليا الحديث وروى له الباقون سوى أبي داود


حرف الدال ( ع ) داود بن الحصين المدني وثقه ابن معين وابن سعد والعجلي وابن إسحاق وأحمد بن صالح المصري والنسائي وقال أبو حاتم ليس بقوي لولا أن مالكا روى عنه لترك حديثه وقال الساجي منكر الحديث متهم برأي الخوارج وقال علي بن المديني ما روى عن عكرمة فمنكر وكذا قال أبو داود وحديثه عن شيوخه مستقيم
قلت روى له البخاري حديثا واحدا من رواية مالك عنه عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة في العرايا وله شواهد
حرف الذال ( ع ) ذر بن بعد الله الموهبي أبو عبد الله الكوفي أحد الثقات الأثبات وثقه ابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن نمير وقال أبو داود كان مرجئا وهجره إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير لذلك وروى له الجماعة


حرف الراء ( ع ) روح بن عبادة القيسي أبو محمد البصري أدركه البخاري بالسن ولم يلقه وكان أحد الأئمة وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين وأثنى عليه أحمد وغيره وكان عفان يطعن عليه فرد ذلك عليه أبو خيثمة فسكت عنه وقال أبو خيثمة أشد ما رأيت عنه أنه حدث مرة فرد عليه علي ابن المديني اسما فمحاه من كتابه وأثبت ما قاله له علي
قلت هذا يدل عل إنصافه وقال أبو مسعود طعن عليه اثنا عشر رجلا فلم ينفذ قولهم فيه قلت احتج به الأئمة كلهم
حرف الزاي ( ع ) زكريا بن إسحاق المكي وثقه ابن معين واحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن البرقي وابن سعد وقال يحيى بن معين كان يرى القدر أخبرنا روح بن عبادة قال رأيت مناديا ينادي بمكة إن المير نهى عن مجالسة زكريا لأجل القدر قلت احتج به الجماعة
(
خ م ت ق ) زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي العامري الكوفي راوي المغازي عن ابن إسحاق قال يحيى بن آدم عن عبد الله بن إدريس ما أحد أثبت في ابن إسحاق منه لأنه أملى عليه إملاء مرتين وقال صالح جزرة زياد في نفسه ضعف ولكنه أثبت الناس في كتاب المغازي وكذا قال عثمان الدارمي وغيره عن عن ابن معين وقال أحمد بن حنبل وأبو داود حديثه حديث أهل الصدق وضعفه علي بن المديني والنسائي وابن سعد وأفرط ابن حبان فقال لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد

قلت ليس له عند البخاري سوى حديثه عن حميد عن أنس ان عمه غاب عن قتال بدر الحديث أورده في الجهاد عن عمرو بن زرارة عنه مقرونا بحديث عبد الأعلى عن حميد وروى له مسلم والترمذي وابن ماجة
حرف السين ( خ م ت ) سعيد بن عمرو بن أشوع الكوفي من الفقهاء وزثقه ابن معين والنسائي والعجلي وإسحاق بن راهويه وأما أبو إسحاق الجوزجاني فقال كان زائغا غاليا يعني في التشيع
قلت والجوزجاني غال في النصب فتعارضا وقد احتج به الشيخان والترمذي
حرف الشين ( ع ) شريك بن عبد الله بن أبي نمر أبو عبد الله المدني وثقه ابن سعد وأبو داود وقال ابن معين والنسائي لا بأس به وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه وقال الساجي كان يرمي بالقدر قلت احتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس لحديث الإسراء مواضع شاذة كما ذكرنا ذلك في آخر الفصل


حرف الصاد ( خ م د ت س ) صخر بن جويرية أبو نافع وثقه أحمد بن حنبل وابن سعد وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي لا بأس به وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين ليس بالمتروك وإنما يتكلم فيه لأنه إن كتابه سقط قال ورأيت في كتاب علي يعني ابن المديني عن يحيى بن سعيد ذهب كتاب صخر فبعث إليه من المدينة احتج به الباقون إلا ابن ماجة
حرف الضاد خالي حرف الطاء ( خ4 ) طلق بن غنام الكوفي من كبار شيوخ البخاري وثقه ابن سعد والعجلي وعثمان بن أبي شيبة وابن نمير والدارقطني وقال أبو داود صالح وشذ ابن حزم فضعفه في المحلى بلا مستند واحتج به أصحاب السنن
حرف الظاء خالي حرف العين ( ع ) عاصم بن أبي النجود المقرئ أبو بكر قال أحمد بن حنبل كان رجلا صالحا وأنا أختار قراءته والأعمش أحفظ منه وقال يعقوب بن سفيان في حديثه اضطراب وهو ثقة وقال أبو حاتم محله الصدق وليس محله أن يقال هو ثقة ولم يكن بالحافظ وقد تكلم فيه ابن علية وقال العقيلي لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال البزاز لا نعلم أحدا ترك حديثه مع أنه لم يكن بالحافظ
(
ع ) عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي أثبت مسلم وغيره له الصحبة وقال أبو علي بن السكن روي عنه رؤيته لرسول الله صلى الله عليه و سلم من وجوه ثابتة ولم يرو عنه من وجه ثابت سماعه وكان الخوارج يرمونه باتصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته وليس بحديثه بأس قال ابن المديني قلت لجرير أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل قال نعم وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه مكي ثقة وكذا قال ابن سعد وزاد كان متشيعا

قلت أساء أبو محمد بن حزم فضعف أحاديث أبي الطفيل وقال كان صاحب راية المختار الكذاب وأبو الطفيل صحابي لا شك فيه ولا يؤثر فيه قول أحد ولا سيما بالعصبية والهوى ولم أر له في صحيح البخاري سوى موضع واحد في العلم رواه عن علي وعنه معروف بن خربوذ وروى له الباقون ا هـ
أقول قد سبق ذكر ذلك ولنعده هنا فنقول قال البخاري في كتاب العلم باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا وقال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك ا هـ
قال الشراح هذا الإسناد من عوالي المؤلف لأنه يلتحق بالثلاثيات من جهة أن الراوي الثالث وهو أبو الطفيل صحابي وقدم المؤلف المتن هنا على السند ليميز بين طريق إسناد الحديث وإسناد الأثر أو لضعف الإسناد بسبب معروف أو للتفنن وبيان الجواز ومن ثم وقع في بعض النسخ مؤخرا وقد سقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني
ومعروف المذكور هو من صغار التابعين ضعفه يحيى بن معين وقال أحمد ما أدري كيف هو وقال الساجي صدوق وقال أبو حاتم يكتب حديثه وروى له مسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي الطفيل أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم في الحج
(
خ د ت ق ) عبد الله بن صالح الجهني أبو صالح كاتب الليث لقيه البخاري وأكثر عنه وليس هو بشرطه في الصحيح وإن كان حديثه عنده صالحا فإنه لم يورد له في كتابه إلا حديثا واحدا وعلق عنه غير ذلك على ما ذكر الحافظ المزي وغيره وكلامهم في ذلك متعقب

ثم ذكر وجه التعقب وقال بعده قلت ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه كان في الأول مستقيما ثم طرأ عليه فيه تخليط فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم فهو من صحيح حديثه وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه والأحاديث التي رواها اليخاري عنه في الصحيح بصيغة حدثنا أو قال لي أو قال المجردة قليلة وأورد ذلك ثم قال
وأما التعليق على الليث من رواية عبد الله بن صالح عنه فكثير جدا وقد عاب ذلك الإسماعيلي على البخاري وتعجب منه كيف يحتج بأحاديثه حيث يعلقها فقال هذا عجيب يحتج به إذا كان منقطعا ولا يحتج به إذا كان متصلا
وجواب ذلك أن البخاري إنما صنع ذلك لما قررناه أن الذي يورده من أحاديثه صحيح عنده قد انتقاه من حديثه لكنه لا يكون على شرطه الذي هو أعلى شروط الصحة فلهذا لا يسوقه مساق أصل الكتاب وهذا اصطلاح له قد عرف بالاستقراء من صنيعه فلا مشاحة فيه والله أعلم
(
ع ) عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة البصري من مشاهير المحدثين ونبلائهم أثنى شعبة على حفظه وكان يحيى بن سعيد القطان يرجع إلى حفظه ووثقه أبو زرعة والنسائي وابن سعد وأبو حاتم وذكر أبو داود عن أبي علي الموصلي أن حماد بن زيد كان ينهاهم عنه لأجل القول بالقدر والذي اتضح أنهم اتهموه بالقدر لأجل ثنائه على عمرو بن عبيد فإنه كان يقول لولا أنني أعلم أنه صدوق ما حدثت عنه وأئمة الحديث كانوا يكذبون عمرو بن عبيد وينهون عن مجالسته

فمن هنا اتهم عبد الوارث وقد احتج به الجماعة
أقول عمرو بن عبيد المذكور كان داعية إلى الاعتزال وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه شيئا مما قيل فيه فقال حدثنا حسن الحلواني حدثنا نعيم بن حماد ح قال أبو إسحاق وحدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا نعيم بن حماد حدثنا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن يونس بن عبيد قال كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث
وحدثني عمرو بن علي أبو حفص قال سمعت معاذ بن معاذ يقول قلت لعوف بن أبي جميلة إن عمرو بن عبيد حدثنا عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا قال كذب والله عمرو ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث
وحدثنا عبيد بن عمر القواريري حدثنا حماد بن زيد قال كان رجل قد لزم أيوب وسمع منه ففقده أيوب فقالوا له يا أبا بكر إنه قد لزم عمرو بن عبيد قال حماد فبينا يوما مع أيوب وقد بكرنا إلى السوق فاستقبله الرجل فسلم

عليه أيوب وسأله ثم قال له أيوب بلغني أنك لزمت ذاك الرجل قال حماد سماه يعني عمرا قال نعم يا أبا بكر إنه يجيئنا بأشياء غرائب قال يقول له أيوب إنما نفر أو نفرق من تلك الغرائب
وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا ابن زيد يعني حمادا قال قيل لأيوب إن عمرو بن عبيد روى عن الحسن قال لا يجلد السكران من النبيذ قال كذب أنا سمع الحسن يقول يجلد السكران من النبيذ
وحدثني حجاج حدثنا سليمان بن حرب قال سمعت سلام بن أبي مطيع قال بلغ أيوب أني آتي عمرا فأقبل علي يوما فقال أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه فكيف تأمنه على الحديث ا هـ
نبيه حديث من حمل علينا السلاح فليس منا صحيح مروي من طرق وقد ذكرها مسلم في كتاب الإيمان وقد أول علماء أهل السنة هذا الحديث فقال بعضهم هو محمول على المستحيل لذلك بغير تأويل فيكفر ويخرج من الملة وقيل معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا وهذا ما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله لست مني
وهكذا القول في جميع الأحاديث الواردة بنحو هذا القول كقوله عليه السلام من غشنا فليس منا فإن مذهب أهل السنة أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ولم يستحله فه عاص ولا يكفر بذلك وكان سفيان بن عيينة يكره قول من يفسره بليس على هدينا ويقول بئس هذا القول يعني انه يمسك تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر
وحملته المعتزلة على ظاهره فقالوا إن من ارتكب كبيرة ولم يتب خرج من الإيمان وخلد في النار ولا يسمونه مؤمنا ولا كافرا وإنما يسمونه فاسقا ولكون

ظاهر هذا الحديث يؤيد مذهب المعتزلة قال عوف كذب والله عمرو ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث يعني أنه أراد أن يعضد بهذه الكلمة مذهبه الباطل وه مذهب المعتزلة
ومراد مسلم بذكر لك هنا بيان أن عوفا جرح عمرو بن عبيد وكذبه وقد حاول العلماء بيان وجه لتكذيب عوف فقالوا إنما كذبه مع ان الحديث صحيح إما لكونه نسبه إلى الحسن والحسن لم يرو هذا أو لكونه لم يسمعه من الحسن وكان عوف من كبار أصحاب الحسن ولن بقي أن يقال فماذا أراد عوف بقوله ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث
واعلم أن هذا الحديث وأشباهه لو انفرد بروايته ثقات الرواة من المعتزلة ولو لم يكونوا دعاة إلى مذهبهم لا يقبل عند المحدثين البتة لما عرفت من أن المبتدع إذا كان متحرزا من الكذب وموصوفا بالديانة لا يقبل من روايته عند من يقبلها لا ما لا يكون مؤيدا لبدعته ظاهرا
ولو لم يرو هذا الحديث من طريق غير طريق عمرو وإخوانه لجعل مثالا للحديث الموضوع الذي وضعته المعتزلة تشييدا لمذهبهم وغن كانوا أبعد الناس عن الوضع
وقد نقلنا سابقا قول بعض العلماء الأعلام إن من يعتقد انه يخلد في النار على شهادة الزور أبعد في الشهادة الكاذبة ممن لا يعتقد ذلك فكانت الثقة بشهادته وخيره أكمل من الثقة بمن لا يعتقد ذلك ودار قبول الشهادة والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء
وقد حاول حكيم أهل الأثر ابن حبان حل هذه العقدة على وجه ربما أرضى الفريقين فقال كان يكذب في الحديث وهما لا تعمدا ولا يخفى أن الكذب وهما

عبارة عن وقوع خطا في حديثه على طريق السهو أو الغفلة ونحو ذلك وهو مما لا يخلو عنه إنسان مهما جل حفظه وانتباهه
قال الحافظ الترمذي قال وكيع إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع مع انه لم يسلم من الخطأ والغلط أحد من الأئمة مع حفظهم
والظاهر أن عمرو بن عبيد كان جاريا على سنن جمهور أهل الأثر في قبول خبر الواحد إذا استوفى الشروط المشهورة قال ابن حزم في كتاب الإحكام في إثبات خبر الواحد ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين أنه لم يقل له قط لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به انه رأي منهم فلم يلزموهم قبوله
ثم قال فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم يجري على ذلك في كل فرقة علماؤها كاهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلموا المعتزلة بعد المئة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم ا هـ
ولا يخفى ما في هذه العبارة من الإشعار بفرط شهرة هذا الرجل مع عظم موقعه في نفوس المعتزلة ولنذكر شيئا من ترجمته مما ذكره أهل الأثر حاذفين كثيرا مما يتعلق بذمه فقد عرف رأيهم فيه فنقول
هو أبو عثمان عمرو بن عبيد البصري روى عن الحسن وأبي قلابة وروى

عنه الحمادان ويحيى القطان وعيد الوارث وهو الذي ذكرنا آنفا أنه اتهم بالاعتزال لنفيه الكذب عن عمرو وقال حماد بن زيد كنت مع أيوب ويونس وابن عون فمر عمرو فسلم عليهم ووقف فلم يردوا عليه السلام
وقال عبد الوهاب الخفاف مررت بعمرو بن عبيد وحده فقلت مالك تركوك قال نهى الناس عني ابن عون فانتهوا وقال عمرو بن النضر سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء وأنا عنده فأجاب فيه فقلت ليس هكذا يقول أصحابنا فقال ومن أصحابك لا أبا لك فقلت أيوب ويونس وابن عون والتيمي قال أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء
وقال محمود بن غيلان قلت لأبي داود إنك لا تروي عن عبد الوارث قال كيف أروي عن رجل يزعم ان عمرو بن عبيد خير من أيوب وابن عون ويونس
وقال عبيد الله بن محمد التيمي كنا إذا جلسنا إلى عبد الوارث كان أكثر حديثه عن عمرو بن عبيد وقال نعيم بن حماد قيل لابن المبارك لم رويت عن سعيد وهشام الدستوائي وتركت حديث عمرو بن عبيد قال كان عمرو يدعو إلى رأيه ويظهر الدعوة وكانا ساكتين
وقال احمد بن محمد الحضرمي سألت ابن معين عن عمرو بن عبيد فقال لا يكتب حديثه فقلت له أكان يكذب فقال كان داعية إلى دينه فقلت له فلم وثقت قتادة وابن أبي عروبة وسلام بن مسكين فقال كانوا يصدقون في حديثهم ولم يكونوا يدعون إلى بدعة
وقال كامل بن طلحة قلت لحماد يا أبا سلمة رويت عن الناس وتركت عمرو بن عبيد فقال إني رأيت كان الناس يصلون يوم الجمعة إلى القبلة وهو مدبر عنهم فعلمت أنه على بدعة فتركت الرواية عنه وذكروا مرائي كثيرة من هذا القبيل رآها الناس في حقه

وذكروا عن الحسن أنه قال نعم الفتى عمرو بن عبيد إن لم يحدث وكان الخليفة أبو جعفر المنصور يعجب بزهد عمرو وعبادته ويقول
(
كلكم يطلب صيد ... كلكم يمشي رويد ... غير عمرو بن عبيد )
وتوفي بطريق مكة سنة ثلاث وأربعين مئة وقيل سنة أربع ورثاه المنصور فقال
(
صلى الإله عليك من متوسد ... قبرا مررت به على مران )
(
قبرا تضمن مؤمنا متحنفا ... صدق الإله ودان بالقرآن )
(
لو أن هذا الدهر أبقى صالحا ... أبقى لنا حقا أبا عثمان )
(
خ م د س ) عثمان بن محمد بن أبي شيبة الكوفي أحد الحفاظ الكبار وثقه يحيى بن معين وابن نمير والعجلي وجماعة وقال أبو حاتم كان أكبر من أخيه أبي بكر إلا أن أبا بكر ضعيف وعثمان صدوق وذكر له الدارقطني في كتاب التصحيف أشياء صحفها من القرآن في تفسيره كانه ما كان يحفظ القرآن وانكر عليه أحمد أحاديث وتتبعها الخطيب وبين عذره فيها روى له الجماعة سوى الترمذي
(
ع ) عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي التابعي المشهور وثقه أحمد والنسائي والعجلي والدارقطني إلا أنه قال كان يغلو في التشيع وكان غمام مسجد الشيعة وقاضيهم قلت احتج به الجماعة وما أخرج له في الصحيح شيء مما يقوي بدعته
(
ع ) عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس احتج به البخاري وأصحاب السنن وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقرونا بسعيد بن جبير وغنما تركه لكلام مالك فيه وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك وصنفوا

في الذب عن عكرمة منهم أبو جعفر بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الله بن مندة وأبو حاتم ابن حبان وابن عبد البر وغيرهم
ومدار طعن الطاعنين فيه على ثلاثة أشياء وهي الكذب وموافقة الخوارج في مذهبهم وقبول جوائز المراء
ومدار جواب الذابين عنه على ان قبول جوائز الأمراء لا يوجب القدح إلا عند المشددين وأهل العلم على جواز ذلك وقد صنف في ذلك ابن عبد البر
وأما البدعة فإن ثبتت عنه فلا تضر في روايته لأنه لم يكن داعية مع أنها لم تثبت عليه
وأما نسبته إلى الكذب فأشد ما ورد في ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر انه قال لنافع لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس
قال ابن حبان أهل الحجاز يطلقون كذب في موضع أخطأ ويؤيد ذلك قول عبادة بن الصامت كذب أبو محمد لما أخبر أنه يقول إن الوتر واجب مع انه لم يقله راوية وإنما قاله اجتهادا ولا يقال للمجتهد فيما أداه إليه اجتهاده إنه كذب فيه وغنما يقال أخطأ فيه وقد ذكر ابن عبد البر أمثلة كثيرة تدل على أن كذب تأتي بمعنى أخطأ

ويتلو ما روي عن ابن عمر في الشدة ما يروي عن ابن سيرين من قوله لمولاه برد لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس وقد عرفت ان كذب قد يكون بمعنى أهخطأ
وقال بعض العلماء كان عكرمة ربما سمع الحديث من رجلين فيحدث به عن احدهما تارة وعن الآخر تارة أخرى فربما قالوا ما أكذبه فربما قالوا ما أكذبه وه صادق
وقال أيوب قال عكرمة أرأيت هؤلاء الذين يكذبونني من خلفي أفلا يكذبونني في وجهي يعني انهم إذا واجهوه بذلك أمكنه الجواب عنه والمخرج منه
وأما طعن مالك فيه فقد بين سببه أبو حاتم قال ابن أبي حاتم سألت أبي عن عكرمة فقال ثقة قلت يحتج بحديثه قال نعم إذا روى عنه الثقات والذي أنكر عليه به مالك إنما هو بسبب رأيه
على انه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه كان يرى ذلك وغنما كان يوافقهم في بعض المسائل فنسبوه إليهم وقد برأه أحمد والعجلي من ذلك
وقال ابن جرير لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه
وأما ثناء الناس عليه من أهل عصره وممن بعدهم فكثير قال الشعبي ما بقي أحد اعلم بكتاب الله من عكرمة وقال جرير عن مغيرة قيل لسعيد بن جبير تعلم أحدا أعلم منك قال نعم عكرمة وقال حبيب بن الشهيد كنت عند عمرو بن دينار فقال والله ما رأيت مثل عكرمة قط
وحكى البخاري عن عمرو بن دينار قال أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل عن عكرمة فجعلت كأني أتبطأ فانتزعها من يدي وقال هذا عكرمة مولى ابن عباس هذا أعلم الناس وقال البخاري ليس أحد من أصحابنا إلا احتج بعكرمة

وقال محمد بن نصر المروزي أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة وقال أبو عمر بن عبد البر كان عكرمة من جلة العلماء ولا يقدح فيه كلام من تكلم فيه لأنه لا حجة مع أحد تكلم فيه وكلام ابن سيرين فيه لا خلاف بين أهل العلم انه كان أعلم بكتاب الله من ابن سيرين وقد يظن الإنسان ظنا يغضب له ولا يملك نفسه
(
خ د س ) عمران بن حطان السدوسي الشاعر المشهور كان يرى رأي الخوارج وكان داعية إلى مذهبه وثقه العجلي وقال قتادة كان لا يتهم في الحديث قال يعقوب بن شيبة أدرك جماعة من الصحابة لم يخرج له البخاري سوى حديث واحد وهو إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة أخرجه البخاري في المتابعات


حرف الغين ( ع ) غالب القطان أبو سليمان البصري وثقه ابن معين والنسائي وأبو حاتم وغيرهم وقال احمد ثقة وأورده ابن عدي في الضعفاء وأورد له أحاديث الحمل فيها على الراوي عنه عمر بن مختار البصري وقد احتج به الجماعة
حرف الفاء ( ع ) فليح بن سليمان الخزاعي أو الأسلمي مشهور من طبقة مالك احتج به البخاري وأصحاب السنن وروى له مسلم حديثا واحدا قال الساجي

هو من الصدق وكان يهم ضعفه يحيى بن معين والنسائي وأبو داود
قلت لم يعتمد عليه البخاري اعتماده على مالك وابن عيينة وأضرابهما وإنما أخرج له أحاديث أكثرها في المناقب بعضها في الرقاق
حرف القاف ( ع ) قتادة بن دعامة البصري التابعي الجليل أحد الأثبات المشهورين كان يضرب به المثل في الحفظ إلا أنه كان ربما يدلس وقال ابن معين رمي بالقدر وذكر ذلك عنه جماعة واما أبو داود فقال لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر والله أعلم احتج به الجماعة
حرف الكاف ( ع ) كهمس بن الحسن التميمي البصري من صغار التابعين قال أحمد ثقة وزيادة وقال أبو داود ثقة وقال الساجي صدوق يهم
قلت أخرج له البخاري أحاديث يسيرة من روايته عن عبد الله بن بريدة واحتج به الباقون
حرف اللام خالي حرف الميم ( خ4 ) مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان يقال له رؤية فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه وقال عروة بن الزبير كان مروان لا يتهم في الحديث وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادا على صدقه
وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى فأما قتل طلحة فكان متأولا فيه كما قرره الإسماعيلي وغيره وأما ما بعد ذلك فغنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير

ما بدا والله أعلم وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم ا هـ
أقول ذكر في تهذيب التهذيب أنه ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل بأربع وروى عن عثمان وعلي وزيد بن ثابت ونقل عن البخاري أنه قال إنه لم ير النبي عليه الصلاة و السلام ثم ذكر أن الإسماعيلي عاب على البخاري تخريج حديثه وعد من موبقاته أنه رمى طلحة يوم الجمل فقتله ثم وثب على الخلافة بالسيف ثم قال وقد اعتذرت عنه في مقدمة شرح البخاري يريد ما نقلناه عنه آنفا
والذي ينبغي أن يقف عليه كل راغب في علم الأثر أن الإمام البخاري كان جل قصده أن يكون الراوي قد صدق فيما رواه عنه من غير نظر إلى أمر آخر فإذا لاح له صدق الخبر حرص على روايته من غير نظر إلى حال الراوي فيما سوى ذلك غير انه لفرط علمه ونباهته كان يحرص على أن لا تظهر مخالفته للجمهور وكثيرا ما يروي أشياء مخالفة لما توخاه في شرطه إشارة إلى أن ذلك مما اشتهر عند من يرجع كثير من الناس إليهم ويولون في ذلك عليهم فهو كتاب فيه أسرار تبهر أولي الألباب ولقد أجاد القائل
(
أعيا فحول العلم حل رموزها ... أبداه في الأبواب من أسرار )
ولهذا كان من حساده ما كان من قيامهم عليه وصد الناس عنه وتحذيرهم منه حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت فقد شعروا أنه أوتي من الفضل ما لم يؤتوا معشاره وانه سبق إلى أمر عظيم ليس لهم إلا أن يقتفوا فيه آثاره وقد أشار البخاري إلى ما في كتابه من الأسرار حيث قال لمحمد بن أبي حاتم الوراق لو نشر بعض أساتذة هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتابي ولا عرفوه ثم قال

صنفته ثلاث مرات فادع بالخير لصاحب الكتاب ولمن نبهك على ما نبهك عليه فإنه مما يضن به على غير أهله
(
ع ) موسى بن عقبة المدني مشهور من صغار التابعين صنف المغازي وهو من أصح المصنفات في ذلك ووثقه الجمهور وقال ابن معين كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح الكتب وقال مرة في روايته عن نافع شيء ليس هو فيه كمالك وعبيد الله بن عمر
قلت فظهر أن تليين ابن معين له إنما هو بالنسبة لرواية مالك وغيره لا فيما تفرد به وقد اعتمده الأئمة كلهم
(
خ س ) ميمون بن سياه البصري تابعي ضعفه يحيى بن معين وقال أبو داود ليس بذاك وقال أبو حاتم ثقة قلت ما له في البخاري سوى حديثه عن انس من صلى صلاتنا الحديث بمتابعة حميد الطويل وروى له النسائي
حرف النون ( ع ) نافع بن عمر الجمحي المكي أحد الأثبات قال ابن مهدي كان من أثبت الناس وقال احمد ثبت ثبت ووثقه يحيى بن معين وأبو حاتم وغير واحد وقال ابن سعد كان ثقة قليل الحديث فيه شيء
قلت احتج به الأئمة وقد قدمنا أن تضعيف ابن سعد فيه نظر لاعتماده على الواقدي


حرف الهاء ( ع ) هشام بن أبي عبد الله الدستوائي أحد الأثبات مجمع على ثقته وإتقانه وقدمه أحمد على الأوزاعي وأبو زرعة على أصحاب يحيى بن أبي كثير وعلى أصحاب قتادة وكان شعبة يقول هذا احفظ مني وكان يحيى القطان يقول إذا سمعت الحديث من هشام الدستوائي فلا تبال أن لا تسمعه من غيره ومع هذه المناقب قال محمد بن سعد كان ثقة حجة إلا انه كان يرى القدر وقال العجلي ثقة ثبت في الحديث إلا انه كان يرى القدر ولا يدعو إليه احتج به الأئمة
(
ع ) همام بن يحيى البصري أحد الأثبات قال أبو حاتم ثقة صدوق في حفظه شيء وقال الحسن بن علي الحلواني سمعت عفان يقول كان همام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه وكان يخالف فلا يرجع إلى كتابه ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال يا عفان كنا نخطئ كثيرا فنستغفر الله
قلت وهذا يقتضي ان حديث همام بآخره أصح مما سمع منه قديما وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل وقد اعتمده الأئمة الستة
حرف الواو ( ع ) الوليد بن كثير المخزومي أبو محمد المدني نزيل الكوفة وثقه ابن معين وأبو داود وقال الآجري عن أبي داود ثقة إلا انه إباضي
قلت الإباضية فرقة من الخوراج ليس مقالتهم شديدة الفحش ولم يكن الوليد داعية
حرف الياء ( يحيى بن أبي كثير اليمامي أحد الأئمة الأثبات الثقات المكثرين عظمة أيوب السختياني ووثقه الأئمة وقال شعبة حديثه أحسن من حديث

الزهري وقال يحيى القطان مرسلاته تشبه الريح لأنه كان كثير الإرسال والتدليس والتحديث من الصحف واحتج به الأئمة
(
ع ) يزيد بن عبد الله بن خصيفة الكندي وقد ينسب إلى جده قال ابن معين ثقة حجة ووثقه أحمد في رواية الأثرم وكذا أبو حاتم والنسائي وابن سعد وروى الآجري عن أبي داود عن احمد أنه قال منكر الحديث
قلت هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث عرف بالاستقراء من حاله وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم
(
خ ت س ق ) يونس بن أبي الفرات البصري وثقه أبو داود والنسائي وقال ابن الجنيد عن ابن معين ليس به بأس وهذا توثيق من ابن معين وأما ابن عدي فذكره في ترجمة سعيد بن أبي عروبة وقال ليس بالمشهور وما أدري ما أراد بالشهرة وشذ ابن حبان فقال لا يجوز أن يحتج به لغلبة المناكير في روايته
قلت ما له في البخاري وفي السنن سوى حديثه عن قتادة عن أنس قال ما أكل النبي صلى الله عليه و سلم على خوان وقد قال الترمذي إن سعيد بن أبي عروبة روى عن قتادة نحو هذا الحديث


صلة تتم بها هذه الفائدة قد تقرر أن الجرح والتعديل من أهم ما يعني به أهل الأثر وقد ألف الحفاظ فيه كتبا جمة ما بين مطول ومختصر
وأول من جمع كلامه في ذلك الحافظ يحيى بن سعيد القطان وقد تكلم في ذلك من بعده تلامذته مثل يحيى بن معين وعلي بن المديني واحمد بن حنبل وعمرو بن علي الفلاس وتلامذتهم مثل أبي زرعة وأبي حاتم والبخاري ومسلم وأبي إسحاق الجوزجاني وتلاهم في ذلك من بعدهم مثل النسائي وابن خزيمة والترمذي والدولابي والعقيلي وله مصنف مفيد في معرفة الضعفاء
ومن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب أبي حاتم بن حبان وكتاب أحمد بن بن عدي وهو أكمل الكتب في ذلك وأجلها وهو الكتاب الذي يدعى الكامل وكتاب أبي الفتح الأزدي وكتاب أبي محمد بن أبي حاتم وكتاب الدارقطني في الضعفاء وكتاب الحاكم فيهم
وقد صنف أبو الفرج بن الجوزي كتابا كبيرا اختصره الذهبي وجعل له ذيلين وجمع معظم ما فيهما في ميزانه وقد عول الناس عليه مع انه تبع ابن عدي في إيراد كل من تكلم فيه ولو كلن ثقة ولكنه التزم ان لا يذكر أحدا من

الصحابة ولا الأئمة المتبوعين قال في الميزان وما كان في كتاب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصحابة فإني أسقطهم لجلالة الصحابة ولا أذكرهم في هذا المصنف إذ كان الضعف إنما جاء من جهة الرواة إليهم وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدا لجلالتهم في الإسلام وعظمهم في النفوس
وقد ذيل عليه الحافظ زين الدين العراقي في مجلد وقد التقط منه الحافظ ابن حجر من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته في الرواة وتراجم مستقلة في كتابه المسمى لسان الميزان وله كتابان آخران وهما تقويم اللسان وتحرير الميزان
هذا وقد أطبق العلماء على وجوب بيان أحوال الكذابين من الرواة وإقامة النكير عليهم صيانة للدين قال بعض علماء الأصول ومن الواجب الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من الآثار من السقيم وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظها فرض كفاية فيما زاد على القدر المتعين ولا يتأتى حفظ الشريعة إلا بذلك ا هـ
وأما من لا يتعلق بهم حفظ الشريعة فلا يجري هذا الحكم فيهم حتى إن بعض من ألف في الجرح والتعديل قد أغضى عن ذكر كثير ممن تكلم فيه من الرواة المتأخرين وذلك لاستقرار أمر الحديث في الجوامع التي جمعتها الأئمة فمن روى بعد ذلك حديثا لا يوجد فيها لم يقبل منه قال بعضهم والحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاث مئة

وقد رأيت لبعض أهل الأثر كلاما يتعلق بما نحن فيه وفيه زيادة بسط فأحببت إيراد جل ذلك إتماما للصلة فأقول
قد تكلم في الرجال خلق لا يتهيأ خصرهم وقد سرد ابن عدي في مقدمة كاملة جماعة إلى زمنه فمن الصحابة ابن عباس وعبادة بن الصامت وأنس ومن التابعين الشعبي وابن سيرين ولك لقلة الضعف فيمن يروون عنهم إذ أكثرهم صحابة وهم عدول وغير الصحابة منهم أكثرهم ثقات إذ لا يكاد يوجد في القرن الأول من الضعفاء إلا القليل
واما القرن الثاني فقد كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء وضعف أكثرهم نشأ غالبا من قبل تحملهم وضبطهم للحديث فكانوا يرسلون كثيرا ويرفعون الموقوف وكانت لهم أغلاط وذلك مثل أبي هارون العبدي
ولما كان آخر عصر التابعين وهو حدود الخمسين ومئة تكلم في التعديل والتجريح طائفة من أئمة فضعف الأعمش جماعة ووثق آخرين ونظر في الرجال شعبة وكان مثبتا لا يكاد يروي إلا عن ثقة ومثله مالك وممن كان في هذا العصر ممن إذا قال قبل قوله معمر وهشام الدستوائي والأوزاعي والثوري وابن الماجشون وحماد بن سلمة والليث بن سعد
وبعد هؤلاء طبقة منهم ابن المبارك وهشيم وأبو إسحاق الفزاري

والمعافى بن عمران الموصلي وبشر بن المفضل وابن عيينة وقد كان في زمانهم طبقة أخرى منهم ابن علية وابن وهب ووكيع
وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال أيضا الحافظان الحجتان يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وكان للناس وتوثق بهما فصار من وثقاه مقبولا ومن جرحا مجروحا وأما ما اختلفا فيه وذلك قليل فرجع الناس فيه إلى ما ترجح عندهم بحسب اجتهادهم
ثم ظهرت بعدهم طبقة أخرى يرجع إليهم في ذلك منهم يزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأبو عاصم النبيل
ثم صنفت الكتب في الجرح والتعديل والعلل وبينت فيها أحوال الرواة وكان رؤساء الجرح والتعديل في ذلك الوقت جماعة منهم يحيى بن معين وقد اختلفت آراؤه وعبارته في بعض الرجال كما تختلف آراء الفقيه النحرير وعبارته في بعض المسائل التي لا تخلص من إشكال
ومن طبقة أحمد بن حنبل وقد سأله جماعة من تلامذته عن كثير من الرجال فتكلم فيهم بما بدا له ولم يخرج عن دائرة الاعتدال
وقد تكلم في هذا الأمر محمد بن سعد كاتب الواقدي في طبقاته وكلامه جيد معقول
وأبو خيثمة زهير بن حرب وله في ذلك كلام كثير رواه عنه ابنه أحمد وغيره
وأبو جعفر عبيد الله بن محمد النبيل حافظ الجزيرة الذي قال فيه أبو داود لم أر أحفظ منه
وعلي بن المديني وله التصانيف الكثيرة في العلل والرجال
ومحمد بن عبد الله بن نمير الذي قال فيه أحمد هو درة العراق
وأبو بكر بن أبي شيبة صاحب المسند وكان آي في الحفظ

وعبيد الله بن عمر القواريري الذي قال فيه صالح جزرة هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة
وإسحاق بن راهويه إمام خراسان
وأبو جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ وله كلام جيد في الجرح والتعديل
وأحمد بن صالح حافظ مصر وكان قليل المثل
وهارون بن عبد الله الحمال وكل هؤلاء من أئمة الجرح والتعديل
ثم خلفتهم طبقة أخرى متصلة بهم منهم إسحاق الكوسج والدارمي والبخاري والعجلي الحافظ نزيل المغرب
ويتلوهم أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ومسلم وأبو داود السجستاني وبقي بن مخلد وأبو زرعة الدمشقي
ثم من بعد جماعة منهم عبد الرحمن بن يوسف بن خراش البغدادي وله مصنف في الجرح والتعديل وكان كأبي حاتم في قوة النفس وإبراهيم بن إسحاق الحربي ومحمد بن وضاح حافظ قرطبة وأبو بكر بن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد وصالح جزرة وأبو بكر الزار ومحمد بن نصر المروزي وأبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة وهو ضعيف لكنه من الأئمة في هذا الأمر
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو بكر الفريابي والبرديجي والنسائي وأبو يعلى وأبو الحسن سفيان وابن خزيمة وابن جرير الطبري والدولابي وأبو عروبة الحراني وأبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصا وأبو جعفر العقيلي
ويتلوهم جماعة منهم ابن أبي حاتم وأبو طالب أحمد بن نصر البغدادي الحافظ شيخ الدارقطني وابن عقدة وعبد الباقي
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو سعيد بن يونس وأبو حاتم بن حبان البستس

والطبراني وابن عدي الجرجاني ومصنفه في الرجال إليه المنتهى في الجرح
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو علي الحسين بن محمد الماسرجسي النيسابوري وله مسند معلل في ألف جزء وثلاث مئة جزء وأبو الشيخ بن حيان وأبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني وبه ختمت معرفة العلل
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو عبد الله بن منده وأبو عبد الله الحاكم وأبو نصر الكلاباذي وأبو مطرف عبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة وله دلائل السنة وعبد الغني بن سعيد وأبو بكر بن مردويه الأصفهاني وتمام الرازي
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الفتح محمد بن أبي الفوراس البغدادي وأبو بكر البرقاني وأبو حاتم العبدوي وقد كتب عنه عشرة أنفس عشرة آلاف جزء وخلف بن محمد الواسطي وأبو مسعود الدمشقي وأبو الفضل الفلكي وله في كتاب الطبقات في ألف جزء وأبو القاسم محمود السهمي وأبو يعقوب القراب وأبو ذر الهرويان
ثم من بعدهم جماعة منهم الحسن بن محمد الخلال البغدادي وأبو عبد الله الصوري وأبو سعد السمان وأبو يعلى الخليلي
ثم من بعدهم جماعة منهم ابن عبد البر وابن حزم الأندلسيان والبيهقي والخطيب
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو القاسم سعد بن علي علي بن محمد الزنجاني وابن ماكولا وأبو الوليد الباجي وقد صنف في الجرح والتعديل وأبو عبد الله الحميدي وابن مفوز المعافري الشاطبي

ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الفضل ابن طاهر المقدسي وشجاع بن فارس الذهلي والمؤتمن بن أحمد بن علي الساجي وشهرويه الديلمي وأبو علي الغساني
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الفضل بن ناصر السلامي والسلفي وأبو موسى المديني وأبو القاسم بن عساكر وابن بشكوال
ثم من بعدهم جماعة منهم عبد الحق الإشبيلي وابن الجوزي وأبو عبد الله بن الفخار المالقي وأبو القاسم السهيلي
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو بكر الحازمي وعيد الغني المقدسي والرهاوي وابن مفضل المقدسي
ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الحسن بن القطان وابن الأنماطي وابن نقطة وابن الدبيثي وأبو بكر بن خلفون الأزدي وابن النجار
ثم من بعدهم جماعة منهم ابن الصلاح والزكي المنذري وأبو عبد الله البرزالي وابن الأبار وابن العديم وأبو شامة وأبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي
ثم من بعدهم جماعة منهم الدمياطي والشرف الميدومي وابن دقيق العيد وابن تيمية
ثم من بعدهم جماعة منهم المزي والقطب الحلبي وابن سيد الناس والتاج بن مكتوم والشمس الجزري الدمشقي وأبو عبد الله بن أيبك السروجي والكمال جعفر الأدفوي والذهبي والشهاب بن فضل ومغلطاي والشريف الحسيني الدمشقي والزين العراقي
ثم من بعدهم جماعة منهم الولي العراقي والبرهان الحلبي وابن حجر العسقلاني وآخرون في كل عصر إلا أن المتقدمين كانوا أقرب إلى الاستقامة وأبعد من موجبات الملامة

ويقسم المتكلمون في الرواة إلى ثلاثة أقسام قم تكلموا في سائر الرواة كابن معين وأبي حاتم
وقسم تكلموا في كثير من الرواة كمالك وشعبة
وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل كابن عيينة والشافعي
ويقسمون من جهة أخرى إلى ثلاثة أقسام أيضا قسم شدد في أمر التعديل وقسم تساهل فيه وقسم توسط في ذلك
فالقسم الأول وهو المشدد قد أفرط في التثبت في أمر التعديل فلهذا تراه يؤاخذ الراوي بالغلطتين والثلاث فهذا إذ وثق راويا فلا تتوقف في توثيقه وإذا ضعف راويا فتأن في أمره وانظر هل وافقه غيره على ذلك فإن لم يوثق ذلك الراوي أحد من الجهابذة النقاد فهو ضعيف وإن وثقه أحد منهم كان موضعا للنظر والبحث
فقد قالوا لا يقبل الجرح إلا مفسرا يريدون بذلك أنه لا يكفي في ذلك قول مثل ابن معين مثلا هو ضعيف من غير بيان سبب ضعفه فإذا وثق مثل هذا البخاري ونحوه وقع الاختلاف في هذا الراوي من جهة تصحيح حديثه أو تضعيفه ومن ثم قال أرباب الاستقراء في هذا الفن لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ثقة يريد اثنان من طبقة واحدة ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه

وكل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من مشدد ومتوسط فمن الأولى شعبة والثوري وشعبة أشدهما ومن الثانية يحيى القطان وابن مهدي ويحيى أشدهما ومن الثالثة ابن معين وأحمد وابن معين أشدهما ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري وأبو حاتم أشدهما
فإذا وثق ابن مهدي راويا وضعفه ابن القطان فإن النسائي لا يتركه لما عرف من تشديد القطان ومن نحا نحوه في النقد
ومن المتساهلين في النقد الترمذي والحاكم ومن المعتدلين فيه الدارقطني وابن عدي فلينتبه لذلك فإنه من المواضع التي يخشى أن يغلب فيها الوهم على الفهم
تنبيه ينبغي للجارح في المواضع التي يتعين عليه في الجرح أن يقتصر على أقل ما يحصل به الغرض ولا يتعدى ذلك إلى ما فوقه ولذلك لام بعض الأئمة بعض إخوانه حيث قال فلان كذاب وقال له آكس كلامك أحسن الألفاظ لا تقل كذاب ولكن قل حديثه ليس بشيء

وقد حكى مسلم في مقدمة صحيحه أن أيوب السختياني ذكر رجلا فقال هو يزيد في الرقم وكنى بهذا اللفظ عن الكذب وقد جرى الإمام البخاري على هذه الطريقة فأكثر ما يقول منكر الحديث سكتوا عنه فيه نظر تركوه وقل أن يقول فلان كذاب أو وضاع وغنما يقول كذبه فلان رماه فلان بالكذب
وقال له وراقة إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ يقولون فيه اغتياب الناس فقال إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم بئس أخو العشيرة وقال يحيى بن سعيد القطان لمن قال له أما تخشى أن يكون هؤلاء خصماءك يوم القيامة لأن يكونوا خصمائي أحب إلي أن يكون خصمي النبي عليه الصلاة و السلام حيث لم أذب عن حديثه
واعلم أن اضطرار أهل الأثر إلى معرفة أحوال الرواة بعثه على البحث عنها ليعرفوها ثم تدوين ما أمكنهم منها ليعرفها من غاب عنهم أو من يأتي بعدهم فنشأ من ذلك التأليف في تاريخ الرواة وصار يذكر فيه بالعرض ما يتعلق بغيرهم إذا دعا إليه داع على ان الحديث شجون وأن كثيرا مما يحتاج إليه لا تتم معرفته إلا بمعرفة ما لا يحتاج إليه وغن كان من هذا الوجه صار محتاجا إليه
ثم توسعوا هم وغيرهم في التاريخ فألفوا في أنواعه المختلفة فظهرت تلك الكتب البديعة المختلفة الأنواع المتعددة الأوضاع وكتبهم فيه أجود من كتب غيرهم في الغالب لكثرة تثبتهم وتحريهم للصدق
وكتبهم المسندة فيه يحتاج الناظر فيها إلى معرفة أحوال السند ليعرف درجة الخبر في الصحة والسقم

وقد توهم كثير من الناس أن ذكر السند يدل على تقوية الخبر والحال أنه يدل إما على تقويته أو توهينه إلا أنه ينبغي التنبه لأمر وهو ان بعض المؤرخين ربما غلب عليهم التعصب على من يخالفهم فسعوا في ستر محاسنه بأن ينقلوا عن غيرهم حملهم شدة التعصب على الافتراء عليه ولو كان على لسان غيرهم بأن ينقلوا عن غيرهم ممن لا يوثق به خبرا يشين خالفهم إلا ان هذا لا يخفى على النبيه الباحث
إلا أن بعض أرباب السخافة يعرضون إلى ما كتبه بعض المؤرخين الثقات في حق مخالفهم مما لو كان في حق محالفيهم لم يكتبوا غير ذلك فيوهمون الأغمار أن فلانا بخس فلانا حقه لكونه مخالفا له كأنهم يريدون أن يخلق المؤرخ له محاسن غير ما فيه
وقد ترجم أناس من كبار المؤرخين أناسا من المشهورين بالفضل وفوهم فيها حقهم بل زادوا في ذلك فعمد بعض المتعصبين لهم إلى الغض عنهم والتنفير منهم زاعمين أنهم لم يوفوهم حقهم بغيا وعدوانا مع أن المترجمين لو رأوا تلك التراجم لقالوا للمترجمين قد أعطيتمونا فوق ما نستحق وعدوهم من اعظم المخلصين في حبهم لا أن أكثر هؤلاء الأتباع هم بنزلة الرعاع ليس لهم رأي جزل يفرقون به بين الجد والهزل فلا ينبغي أن يعبأ بكلامهم ولا يلتفت إلى ملامهم فهم منكرون للإحسان ليس فيهم غير الصورة من الإنسان
هذا والمؤلفات في الرواة قد سبق ذكر بعضهم وقد أحببنا أن نعود إلى ذلك وإن تكررت بعض الأسماء فنقول نقلا عمن لهم عناية بذلك
ومن الكتب المشتملة على الثقات والضعفاء جميعا كتاب ابن أبي خيثمة وهو كثير الفوائد

والطبقات لابن سعد
وتواريخ البخاري وهي ثلاثة كبير وهو على حروف المعجم وابتدأه بمن اسمه محمد وأوسط وهو على السنين وصغير
ولمسلمة بن قاسم ذيل على الكبير سماه الصلة وهو في مجلد
ولابن أبي حاتم جزء كبير انتقد فيه على البخاري وله في الجرح والتعديل مشى فيه خلف البخاري
وللحسين بن إدريس الأنصاري الهروي ويعرف بابن خرم على نحو التاريخ الكبير للبخاري
ولعلي بن المديني تاريخ في عشرة أجزاء حديثية
ولابن حبان كتاب في أوهام أصحاب التواريخ في عشرة أجزاء أيضا
ولأبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود كتاب في الجرح والتعديل
ولمسلم رواة الاعتبار
وللنسائي التمييز
ولأبي يعلى الخليلي الإرشاد
وللعماد بن كثير التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل جمع فيه بين تهذيب المزي وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات وهو أنفع شيء للمحدث والفقيه التالي لأثره
قال الخطيب في جامعه ومن جملة ما يهتم به الطالب سماع تواريخ المحدثين وكلامهم في أحوال الرواة مثل كتب ابن معين رواية الحسين بن حبان

البغدادي وعباس الدوري والمفضل الغلابي وتاريخ ابن أبي خيثمة وحنبل بن إسحاق وخليفة بن خياط ومحمد بن إسحاق السراج وأبي حسان الزيادي وأبي زرعة الدمشقي وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
قال ويربي على هذه كلها تاريخ البخاري ثم ساق عن أبي العباس بن عقدة أنه قال لو أن رجلا كتب ثلاثين ألف حديث لما استغنى عنه ا هـ
وقد ذكر المحدثون للتاريخ بمعنى التعريف بالوقت الذي حصلت فيه الحادثة فوائد باعتبار فنهم
أحدها أنه أحد الطرق التي يعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين اللذين تعذر الجمع بينهما
وثانيهما أنه طريق لمعرفة ما يؤخذ به من أحاديث الثقات الذين لحقهم الاختلاط مما لا يؤخذ به
ويظهر لك ذلك مما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الرزاق بن همام الصنعاني قال كان أحد الحفاظ الأثبات أصحاب التصانيف وثقه الأئمة كلهم إلا العباس بن عبد العظيم العنبري وحده فتكلم بكلام أفرط فيه ولم يوافقه عليه أحد وقال ابن عدي رحل إليه ثقات المسلمين وكتبوا عنه إلا أنهم نسبوه إلى التشيع وهو أعظم ما ذموه به وأما الصدق فأرجو انه لا بأس به وقال النسائي

فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة كتبوا عنه أحاديث منكرة وقال الأثرم عن أحمد من سمع منه بعد ما عمي فليس بشيء وما كان في كتبه فهو صحيح فإنه كان يلقن فيتلقن
قلت احتج به الشيخان في جملة من حديث من سمع منه قبل الاختلاط وضابط ذلك من سمع منه قبل المئتين فأما بعدها فكان قد تغير وفيها سمع منه أحمد بن شبويه فيما حكى الأثرم عن أحمد وإسحاق الدبري وطائفة من شيوخ أبي عوانة والطبراني ممن تأخر إلى قرب الثمانين ومئتين وروى له الباقون
وثالثهما معرفة من حدث عمن لم يلقه إما لكونه كذب أو دلس أو أرسل وفي ذلك معرفة ما في السند من انقطاع أو إعضال أو تدليس
ولا يخفى ان من المهم عند المحدث معرفة كون الراوي لم يعاصر من روى عنه أو عاصره ولكنه لم يلقه لكونهما من بلدين مختلفين ولم يدخل أحدهما بلد الآخر ولا التقيا في حج وغيره مع انه ليست منه إجازة أو نحوها
قال سفيان الثوري لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ وعن حسان بن زيد لم يستعن على الكذابين بمثل لاتاريخ يقال للشيخ سنة كم ولدت فإذا أقر بمولده مع معرفتنا بوقت وفاة الذي انتمى إليه عرفنا صدقه من كذبه وعن حفص بن غياث القاضي قال إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين وهو تثنية سن بمعنى العمر يعني احسبوا سنه وسن من كتب عنه
وسأل إسماعيل بن عياش رجلا فقال له في أي سنة كتبت عن خالد بن معدان فقال سنة ثلاث عشرة ومئة فقال أنت تزعم أنك سمعت منه بعد موته بسبع سنين وفي مقدمة مسلم أن المعلى بن عرفان قال حدثنا أبو وائل قال خرج علينا ابن مسعود بصفين قال أبو نعيم يعني الفضل بن دكين حاكيه عن

المعلى أتراه بعث بعد الموت وذلك لن ابن مسعود توفي سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين قبل انقضاء خلافة عثمان بثلاث سنين وصفين كانت في خلافة علي بعد ذلك
والتاريخ في اللغة والإعلام بالوقت يقال أرخت الكتاب وورخته بمعنى بينت كتابته قيل إنه ليس بعربي محض بل هو معرب من الفارسية وأصله ماه روز فماه القمر وروز النهار والتعريب فيه على هذا الوجه غير ظاهر
ومن الغريب أن بعض الناقلين كر أن الأصمعي قال بنو تميم يقولون تورخت الكتاب توريخا وقيس تقول أرخته تأريخا وقد نقل بعضهم ما يشعر بأن لفظ التاريخ يمني فقال روى ابن أبي خيثمة من طريق محمد بن سيرين قال قدم رجل من اليمن فقال رأيت باليمن شيئا يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا فقال عمر هذا احسن فأرخوا
الفائدة الخامسة
في درجة أحاديث الصحيحين في الصحة قد عرفت فيما سبق ان الحديث الصحيح له درجات تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات التي تبنى الصحة عليها وتنبىء عنها وان أصح كتب الحديث كتاب البخاري وكتاب مسلم
وقد قسموا الحديث الصحيح باعتبار تفاوت الدرجات إلى سبعة أقسام القسم الأول وهو أعلاها ما أخرجه البخاري ومسلم القسم الثاني ما انفرد به

البخاري عن مسلم القسم الثالث ما انفرد به مسلم عن البخاري القسم الرابع ما هو على شرطهما ولكن لم يخرجه واحد منهما القسم الخامس ما هو على

شرط البخاري ولكن لم يخرجه القسم السادس ما هو على شرط مسلم ولكن لم يخرجه القسم السابع ما ليس على شرطهما ولا على شرط واحد منهما ولكنه صح عند أئمة الحديث

@ 291 @

@ 292 @

@ 293 @

@ 294 @

@ 295 @

@ 296 @

وكل قسم من هذه الأقسام أعلى مما بعده غير أنه قد يعرض لبعض الأحاديث من زيادة التمكن من شروط الصحة ما يجعله أرجح من حديث آخر يكون في القسم الذي هو أعلى منه في الدرجة وعلى هذا فيرجح ما انفرد به مسلم ولكنه روي من طرق مختلفة على ما انفرد به البخاري إذا كان فردا وكذلك يرجح ما لم يخرجاه ولكنه ورد بإسناد يقال فيه إنه أصح إسنادا على ما انفرد به أحدهما

لا سيما إن كان في إسناده من فيه مقال وقس على ذلك
وقد ظن بعض أرباب الأهواء الذين يميلون إلى كتاب البخاري ولا إلى كتاب مسلم أنهم يجدون بسبب هذه المسألة ذريعو إلى الخلاص من حكمهما ليتسع لهم المجال فيما وافق أهواءهم من الآراء وصار دأبهم أن يقولوا كم من حديث صحيح لم يرد في الصحيحين وهو مع ذلك أصح مما ورد فيهما يظنون انهم بذلك يوهنون أمرهما ويضعون قدرهما
والحال أن مزية الصحيحين ثابتة ثبوت الجبال الرواسي لا ينكرها إلا غمر يزري بنفسه وهو لا يشعر والعلماء إنما فتحوا هذا الباب لأرباب النقد والتمييز الذين يرجحون ما يرجحون بدليل صحيح مبني على القواعد التي قررها المحققون في هذا الفن وأما المموهون الذين يريدون أن يجعلوا الصحيح سقيما والسقيم صحيحا بشبه واهية جعلوها في صورة الأدلة فينبغي الإعراض عنهم مع حل الشبه التي يخشى أن تعلق بأذهان من يريدون أن يوقعوه في أشراكهم 3هذا وقد نقل بعض العلماء عن بعضهم انه اعترض على هذا الترتيب الذي جرى عليه أهل الأثر فقال قول من قال أصح الأحاديث ما في الصحيحين ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم ثم ما اشتمل على شرطهما ثم ما اشتمل على شرط أحدهما تحكم لا يجوز التقليد فيه إذ الأصحية ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم
ثم حكمهما أو أحدهما بأن الراوي المعين مجتمع تلك الشروط مما لا يقطع فيه

بمطابقة الواقع فيجوز كون الواقع خلافه وقد أخرج مسلم عن كثير ممن لم يسلم من غوائل الجرح وكذا في البخاري جماعة تكلم فيهم فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم وكذا في الشروط حتى إن من اعتبر شرطا وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه ذلك الشرط عنده مكافئا لمعارضة المشتمل على ذلك الشرط وكذا فيمن تضعف راويا ووثقه آخر
نعم تسكن نفس غير المجتهد ومن لم يخبر أمر الرواي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر أما المجتهد فباعتبار الشرط وعدمه والذي خبر الراوي فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه فما صح من الحديث في غير الكتابين يعارض ما فيهما
ولا يخفى أن صاحبي الصحيحين لم يكتفيا في التصحيح بمجرد النظر إلى حال الراوي في العدالة والضبط كما يتوهمه كثير ممن لم يعن بهما ولم يكن له إمعان نظر في أصول الأثر بل ضما إلى ذلك النظر في أمور أخرى بمجموعها يظهر الحكم بالصحة وقد ذكرنا شيئا من ذلك سابقا وربما ألممنا به عند ذكر المستدرك
وقد تعرض العلامة تقي الدين بن تيمية إلى ما ذكرنا آنفا فقال فصل وأما الحديث الواحد إذا رواه البخاري ورواه الموطأ فقد تكون رجال البخاري أفضل وقد تكون رجال الموطأ فينظر في هذا وهذا إلى رجالهما ونحن وإن كنا نعلم أن الرجال الذين في البخاري اعظم من الرجال الذين في الموطأ على الجملة فهذا لا يفيد العلم بالتعيين فإن أعيان ثقات الموطأ روى لهم البخاري فهم من رجال الموطأ والبخاري والمتن الواحد قد يرويه البخاري بإسناد وهو في الموطأ بإسناد آخر على شرط البخاري أجود من رجال البخاري فالحديث إذا كان مسندا في الكتابين نظر إلى إسنادهما ولا يحكم في هذا بحكم مجمل
لكن نعلم من حيث الجملة أن الرجال الذين اشتمل عليهم البخاري أصح

من جنس رجال الموطأ وغيرهم والحديث المذكور في الموطأ رجاله رجال البخاري
وأما معاذ بن فضالة وهشام الدستوائي ونحوهما من رجال أهل العراق فليسوا في الموطأ ومهم من تأخر عن مالك كمعاذ وهشام الدستوائي هو في طبقة شيوخ مالك بمنزلة يحيى بن أبي عروبة ومنصور بن المعتمر والأعمش ويونس بن عبيد وعبد الله بن عون وأمثالهم من رجال أهل العراق الذين هم من طبقة شيوخ مالك والحديث الذي يكون عن رجال البخاري وليس هو في الصحيح لا يحكم بأنه مثل ما في الصحيح مطلقا لكن قد يتفق ان يكون مثله كما قد يتفق أن يكون معتلا وإن كان ظاهر إسناده الصحة والله أعلم ا هـ
أقول قد سبق ذكر هشام الدستوائي في أثناء ذكر من طعن فيه من رجال البخاري وأن الأئمة احتجوا به لأنه كان ثقة حجة ولم يكن وجه للطعن فيه غير أنه كان يرى القدر إلا أنه كان لا يدعو إليه
هذا ورجحان كتاب البخاري على كتاب مسلم أمر ثابت أدى إليه بحث جهابذة النقاد واختبارهم وقد صرح بذلك كثير منهم ولم يصرح أحد بخلافة إلا انه نقل عن أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم وبعض علماء المغرب ما يوهم رجحان كتاب مسلم عليه أما أبو علي فقد نقل عنه ابن منده أنه قال ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم
وهذه العبارة ليست صريحة في مونه أصح من كتاب البخاري وذلك لأن ظاهرها يدل على نفي وجود كتاب أصح من كتاب مسلم ولا يدل على نفي وجود كتاب يساويه في الصحة وإنما تكون صريحة في ذلك أن لو قال كتاب مسلم أصح كتاب تحت أديم السماء
قال بعض أهل الأدب ذهب من لا يعرف معاني الكلام إلى أن مثل قوله

صلى الله عليه و سلم ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء لهجة من أبي ذر مقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالم أجمع وليس المعنى كذلك وإنما نفى أن يكون أحد أعلى رتبة في الصدق منه ولم ينف أن يكون في الناس مثله في الصدق ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال أبو ذر أصدق من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء
وقال بعضهم عن هذه الصيغة تستعمل تارة على مقتضى اللغة فتدل على نفي الزيادة فقط وتستعمل تارة على مقتضى العرف فتدل على نفي الزيادة والمساوة معا وحيث أن عبارة أبي علي تحتمل المعنيين فلا ينبغي أن ينسب إليه أحدهما جزما كما فعل جماعة حيث ذكروا أنه قال إن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري
وقال بعض العلماء والذي يظهر لي من كلام أبي علي أنه إنما قدم صحيح مسلم لمعنى آخر غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة بل لك لأن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق بخلاف البخاري فإنه ربما كتب الحديث من حفظه ولم يميز ألفاظ رواته ولهذا ربما يعرض له الشك وقد صح عنه انه قال رب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بالشام
ولم يتصد مسلم لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها حتى لزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعا لا مقصودا فلهذا قال أبو علي ما قال مع أني رأيت بعض

أئمتنا يجوز أن يكون أبو علي ما رأى صحيح البخاري وعندي في ذلك بعد والأقرب ما ذكرته ا هـ
وأما بعض علماء المغرب فقد نقل عنهم ما يدل على تفضيل كتاب مسلم على كتاب البخاري إلا انه ليس في عبارة أحد منهم ما يشعر بأن ذلك من جهة الصحة فقد نقل عن أحد تلاميذ ابن حزم أنه كان يقول كان بعض شيوخي يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري ويظن أنه يعني بذلك ابن حزم
قال القاسم التجيبي في فهرسته كان أبو محمد بن حزم يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد فقد أبان ابن حزم أن تفضيل كتاب مسلم من جهة أنه لم يمزج فيه الحديث بغيره من موقوفات الصحابة والتابعين وغير ذلك
وقال مسملة بن قاسم القرطبي وهو من أقران الدارقطني في تاريخه عند ذكر كتاب مسلم لم يضع أحد مثله
وهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب وسهولة التناول فإنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقة التي ارتضاها واختار ذكرها وأورد فيه ألفاظه المختلفة بخلاف البخاري فإنه يذكر الطرق في أبواب متفرقة ويورد كثيرا من الأحاديث في غير الأبواب التي يتبادر إلى الذهن أنها تذكر فيها
وقد وقع بسبب ذلك لناس من العلماء أنهم نفوا رواية البخاري لأحاديث هي موجودة فيه حيث لم يجدوها في مظانها السابقة إلى الفهم وقد اعتمد كثير من المغاربة ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد كعبد الحق على كتاب مسلم في نقل المتون وسياقها لوجودها فيه في موضع واحد وتقطيع البخاري لها
وقد تعرض مرجحو كتاب البخاري على كتاب مسلم من جهة الصحة لبيان موجب ذلك فقالوا إن مدار صحة الحديث على ثلاثة أشياء الثقة بالرواة

واتصال الإسناد والسلامة من العلل القادحة ولدى الباحث تبين أن كتاب البخاري أرجح في ذلك
أما من جهة الثقة بالرواة فيظهر رجحانه من اوجه
أحدها أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربع مئة وبضع وثلاثون رجلا والمتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ست مئة وعشرون رجلا والمتكلم فيه بالضعف منهم مئة وستون رجلا ولا ريب أن التخريج لمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج لمن تكلم فيه وغن لم يكن ذلك الكلام قادحا
وثانيها ان الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس بخلاف مسلم فإنه اخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر وسهيل عن أبيه والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه وحماد بن سلمة عن ثابت وغير ذلك
وثالثها أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه اكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع عليهم أحاديثهم وميز جيدها من غيره بخلاف مسلم فإن أكثر من انفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدم عصره من التابعين ومن بعدهم ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم منهم
ورابعها أن البخاري يخرج حديث الطبقة الأولى التي جعل جل اعتماده عليها وقد يخرج من حديث الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب لكن يخرج أكثره على طريق التعليق وربما خرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة على طريق التعليق أيضا وقد عرفت فيما سبق أن كتاب البخاري موضوع بالذات للمسندات وأما المعلقات فإنما تذكر فيه استئناسا واستشهادا ولهذا لم يتعرض لها الدارقطني فيما انتقده

عليه وأما مسلم فإنه يخرج أحاديث الطبقيتين على سبيل الاستيعاب ويخرج أحاديث الطبقة الثالثة من غير استيعاب
وما ذكر إنما في حق المكثرين فأما غير المكثرين فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطأ لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرج ما تفرد به كيحيى بن سعيد الأنصاري ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره وهو الأكثر وأما الطبقة الرابعة والخامسة فلم يعرجا عليها
وأما من جهة السلامة من العلل القادحة فلأن الأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مئتي حديث وعشرة أحاديث اختص البخاري منها بأقل من ثمانين واختص مسلم بالباقي ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر ذلك فيه وربما ذكر تعلم رجحان كتاب البخاري على كتاب مسلم في الأمور الثلاثة التي عليها مدار صحة الحديث
وقد نقل عن كثير من الأئمة ترجيح كتابه على غيره بطريق الإجمال قال النسائي وهو شيخ أبي علي النيسابوري ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل يعني بالجودة جودة الأسانيد كما هو المتبادر إلى الفهم في عرف المحدثين وناهيك بمثل هذا الكلام من مثل النسائي المشهور بشدة التحري

والتثبت في نقد الرجال فقد ثبت تقدمه في ذلك على أهل عصره حتى قدمه قوم من الحذاق في نقد الرجال على مسلم وقدمه الدارقطني وغيره في ذلك على إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح
وقال الإسماعيلي في المدخل له أما بعد فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعا كما سمي لكثير من السنن الصحيحة ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع لى معرفة الحديث ونقلته والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة وتمكنا منها كلها وتبحرا فيها وكان يC الرجل الذي قصر زمانه على ذلك فبرع وبلغ الغاية فحاز السبق وجمع إلى ذلك حسن النية والقصد للخير فنفعه الله ونفع به
قال وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني لكنه اقتصر على السنن
ومنهم أبو داود السجستاني وكان في عصر أبي عبد الله البخاري فسلك فيما سماه سننا ذكر ما روي في الشيء وإن كان في السند ضعف إذ لم يجد في الباب غيره
ومنهم مسلم بن الحجاج وكان يقاربه في العصر فرام مرامه وكان يأخذ عنه أو عن كتبه إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله وروى عن جماعة كثيرة لم يتعرض أبو عبد الله للرواية عنهم
وكل قصد الخير غير أن أحدا منهم لم يبلغ من التشدد مبلغ أبي عبد الله ولا تسبب إلى استنباط المعاني واستخراج لطائف فقه الحديث وتراجم البواب الدالة على ماله وصلة الحديث المروي فيه تسببه ولله الفضل يختص به من يشاء
وقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري وهو معاصر لأبي علي النيسابوري ومقدم عليه في معرفة الرجال فيما حكاه أبو يعلى الخليلي في الإرشاد ما ملخصه رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام فإنه الذي ألف الأصول وبين الناس وكل من عمل بعده

فإنما أخذه من كتابه كمسلم فرق أكثر كتابه في كتابه
وقال أيضا في كتاب الكنى كان أحد الأئمة في معرفة الحديث وجمعه ولو قلت إني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لم أكن بالغت
وقال الدارقطني إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجا وزاد فيه زيادات
والكلام في ذلك كثير ويكفي منه اتفاقهم على أنه كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف منه بفن الحديث وأن مسلما تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره وأن مسلما كان يشهد له بالتقدم في ذلك والإمامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره حتى هجر من أجله شيخه محمد بن يحيى الذهلي لما أثار الفتنة على البخاري حسدا له حتى اضطر البخاري أن يخرج من نيسابور خشية على نفسه
وعلى كل حال ففضل مسلم لا ينكر فإن البخاري وإن يكن قد قام بأمر الجامع فإن مسلما قد قام بأمر إكماله فهو يتلوه على الأثر وهما للناس شمس وقمر وللأديب البارع أبي عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني في مدح صحيح البخاري
(
صحيح البخاري لو أنصفوه ... لما خط إلا بماء الذهب )
(
هو الفرق بين الهدى والعمى ... هو السد دون العنا والعطب )
(
أسانيد مثل نجوم السماء ... أمام متون كمثل الشهب )
(
به قام ميزان دين النبي ... ودان له العجم بعد العرب )
(
حجاب من النار لا شك فيه ... يميز بين الرضا والغضب )
(
وخير رفيق إلى المصطفى ... ونور مبين لكشف الريب )
(
فيا عالما أجمع العالمون ... على فضل رتبته في الرتب )
(
سبقت الأئمة فيما جمعت ... وفزت على رغمهم بالقصب )

(
نفيت السقيم من الغافلين ... ومن كان متهما بالكذب )
(
وأثبت من عدلته ... وصحت روايته في الكتب )
(
وأبرزت في حسن ترتيبه ... وتبويبه عجبا للعجب )
(
فأعطاك ربك ما تشتهيه ... وأجزل حظك فيما يهب )
(
وخصك في غرفات الجنان ... بخير يدوم ولا يقتضب )
تتمة قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بحة أصلها ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها قال فمن خالف حكمه خبرا منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضا حكمه لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مبحث الصحيح في الفائدة السابعة بعد أن ذكر الأقسام السبعة التي سبق بيانها هذه أمهات أقسامه وأعلاها الأول وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا صحيح متفق عليه يطلقون ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم لا اتفاق الأمة عليه لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عيه بالقبول
وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن وغنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولا هو الصحيح لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ والأمة في مجموعها معصومة من الخطأ ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها وأكثر إجماعات العلماء كذلك

وهذه نكتة نفيسة نافعة ومن فوائدها القول بأن ما تفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره وهي معروفة عند أهل هذا الشأن ا هـ
ومجمل ما فصله سابقا هو ان ما حكم البخاري ومسلم بصحته بلا إشكال هو ما أورده بالإسناد المتصل وأما المعلق الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري وهو في كتاب مسلم قليل جدا ففي بعضه نظر وأن قول البخاري ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح محمول على ما وضع الكتاب لأجله وهو الأحاديث الصحيحة المسندة دون المعلقات والآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم والأحاديث المترجم بها ونحو ذلك فإن فيها ما لا يجزم بصحته فيستثنى مما يحكم بإفادته العلم وإن كان إيراده لها في أثناء الصحيح مشعرا بصحة أصله وأن قول الحميدي في كتاب الجمع بين الصحيحين لم نجد من الأئمة الماضين رضي الله عنهم من أفصح لنا في جميع ما جمعه بالصحة إلا هذين الإمامين محمول على ما وضع الكتاب لأجله ولذا لم يرد مثل قول البخاري وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم الله أحق أن يستحيا منه لأنه ليس من شرطه وهذا مهم خافي
وقد خالف العلامة النووي الحافظ ابن الصلاح فيما ذهب إليه فقال في التقريب وهو كتاب اختصره من الإرشاد الذي اختصره من كتاب علوم الحديث للحافظ المذكور وإذا قالوا صحيح متفق عليه أو على صحته فمرادهم اتفاق الشيخين وذكر الشيخ أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا يفيد الظن ما لم يتواتر
وقال في شرحه على مسلم هذا الذي ذكره الشيخ في هذه المواضع

خلاف ما قاله المحققون والأكثرون فإنهم قالوا أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن فإنها آحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك
وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما وهذا متفق عليه فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد إلا الظن فكذا الصحيحان وغنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه بل يجب العمل به مطلقا وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر وتوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على انه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه و سلم وقد أنكر ابن برهان الإمام على من قال بما قاله الشيخ وبالغ في تغليطه ا هـ
وقد أنكر العز عبد السلام على ابن الصلاح ذلك وقال إن المعتزلة يرون أن الأمة إذا علمت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته قال وهذا مذهب رديء ا هـ
وقد ذكر هذه المسألة مع الرد عليها صاحب المحصول فقال زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري أن الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر وهذا باطل لوجهين
أحدهما أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك الخبر فوجب أن لا يدل على صحة الخبر أما الأول فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل فلا يكون عملهم به متوقفا على القطع به وأما الثاني فلأنه لما لم يتوقف عليه لم يلزم من ثبوته صحته
والثاني أن عملهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليل آخر لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد

احتجوا بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته أن يرد مدلوله بعضهم ويقبله الآخرون
والجواب أن هذه العادة ممنوعة بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن
وقد أشار إليها الغزالي في المستصفى فقال فإن قيل خبر الواحد الذي عملت به الأمة هل يجب تصديقه قلنا إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه فلا يلزم الحكم بصدقه
فإن قيل لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الأمة بالباطل وهو خطأ ولا يجوز ذلك على الأمة
قلنا الأمة ما تعبدوا إلا بخبر يغلب على الظن صدقه وقد غلب على ظنهم ذلك كالقاضي إذا قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا وإن كان شاهدا كاذبا بل يكون محقا لأنه لم يؤمر إلا به ا هـ
وقال بعض علماء الأصول إذا حصل الإجماع على وفق خبر فإما أن يتبين استنادهم إليه أولا فإن تبين استنادهم إليه حكم بصحة ذلك الخبر وقد وهم من قال بغير ذلك وإن لم يتبين استنادهم إليه لم يحكم بصحته لاحتمال استنادهم إلى دليل آخر وغاية ما يقال أنه لم ينقل إلينا وذلك لا يدل على عدمه
وقال بعضهم يحكم بصحته بناء على أنهم لو استندوا إلى غيره لم يخف علينا

وأشار بقوله وقد وهم من قال بغير ذلك إلى من يحكم بصحة الخبر مع استناد المجمعين إليه وجوز أن يكون غير ثابت في الواقع وزعم أن المجمعين لا ينسب لهم الخطأ ولو استندوا إلى خبر غير ثابت أنهم إنما أمروا بالاستناد إلى ما ظنوا صحته وهم قد فعلوا ذلك ولا يلزم من ظنهم صحته صحته في نفس الأمر
وقال في حديث لا تجتمع أمتي على ضلالة الضلالة الخطأ الذي يؤاخذ عليه صاحبه وقد جرى على شاكله هذا من قال إنه لا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في نفس الأمر وحينئذ فيكون المراد بالضلالة المنفية عنهم ما خالف حكم الله ولو باعتبار ظنهم لا ما خالف حكم الله في نفس الأمر ولا يخفى أن هذا القول يجعل الأمة في حكم الواحد منها في جواز وقوع الخطأ منها بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر ا هـ
وقد ذكر الفخر في المحصول مسألة تقرب من هذه المسألة فقال اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله بأن الأمة فيه على قولين منهم من احتج به ومنهم من اشتغل بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله وهو ضعيف لاحتمال أن يقال إنهم قبلوه كما يقبل خبر الواحد ويمكن أن يجاب عنه بأن خبر الواحد إنما يقبل في العمليات لا في العمليات وهذه المسألة علمية فلما قبلوا هذا الخبر فيها دل ذلك على اعتقادهم صحته
والجواب أنا لا نسلم أن كل الأمة قبلوه بل كان من لم يحتج به في الإجماع طعن فيه بأنه من باب الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية وهب انهم لم يطعنوا فيه على التفصيل لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة عدم الطعن مطلقا ا هـ

وأراد بخبر الإجماع حديث لا تجتمع أمتي على ضلالة رواه أحمد في مسنده وروى الترمذي بسنده إلى رول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ

شذ إلى النار وقال غريب من هذا الوجه ورواه الحاكم بلفظ لا جمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة
وقال ابن حزم في كتاب الإحكام في فصل الرد على من قال إن الجمهور إذا اجتمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى خلافة وقد روي أيضا في هذا من طريق الخشني عن المسيب بن واضح عن معتمر بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على ضلالة أبدا وعليكم بالسواد العظم فغن من شذ شذ عن الناس قال أبو محمد والمسيب بن واضح قد رأينا له أحاديث منكرة جدا منها عن النبي صلى الله عليه و سلم من ضرب أباه فاقتلوه ولو صح لما كان إلا من شذ عن الحق
ويقال لهم لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بالمحال وقد رأينا القولة يكثر القائلون بها ويغلبون على الأرض ثم يقلون ويغلب أهل مقالة أخرى فليلزم على هذا الذي ذكرتم أن الحق كان في المقالة التي كثر أهلها ثم لما قل أهلها بطل فصار الحق في غيرها وهذا خطأ ممن أجازه وصح أن ذلك الحديث مولد
ولنرجع إلى المسألة التي وقع الخلاف فيها بين ابن الصلاح والنووي فنقول قال الحافظ ابن حجر ما ذكره النووي مسلم من جهة الأكثرين أما المحققون فلا فقد وافق ابن الصلاح أيضا محققون وقال البلقيني ما قاله النووي وابن

عبد السلام ومن تبعهما ممنوع فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرائيني والقاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعن السرخسي من الحنفية والقاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعن السرخسي من الحنفية والقاضي عبد الوهاب من المالكية وأبي يعلى وأبي الخطاب وابن الزاغوني من الحنابلة وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعرية وأهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفوة التصوف فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه
وقد كثر الرادون على ابن الصلاح والمنتصرون له أما الرادون عليه فقد اختلفت عباراتهم والاعتراض عليه عند المحققين وارد من ثلاثة أوجه
الوجه الأول انه خالف جمهور أرباب الكلام والأصول فإنهم ذهبوا إلى أن أخبار الآحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن وذهب هو إلى إخبار الآحاد التي في الصحيحين سوى ما استثني منها تفيد العلم ولو اكتفى بذلك لأمكن أن يقال لعله يريد بالعلم الظن القوي فلا يكون الخلاف بينه وبينهم شديدا لكنه زاد فوصف العلم بكونه يقينيا فلم يبق وجه للصلح بينه وبينهم ولا يخفى أن مخالفة أهل الكلام والأصول ليست بالأمر السهل
وهنا شيء وهو أن بعض المحققين منهم ذهب إلى أن أخبار الآحاد قد تفيد العلم مع القرائن قال في المحصول اختلفوا في أن القرائن هل تدل على صدق الخبر أم لا فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه وأنكره الباقون ثم ذكر أدلة الفريقين
وقال بعد ذلك والمختار أن القريبة قد تفيد العلم إلا أن القرائن لا تفي العبارات بوصفها فقد تحصل أمور نعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور لعجزنا عنه والإنسان إذا أخبر عن كونه عطشان فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد

العلم بكونه صادقا والمريض إذا أخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصيح وترى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن المريض صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له فها هنا يحصل العلم بصدقه
وبالجملة فكل من استقرأ العرف عرف أن مستند اليقين في الأخبار ليس إلى القرائن فثبت أن الذي قاله النظام حق ا هـ
ولا ريب أن أكثر أخبار الصحيحين قد اقترنت بها قرائن تدل على صحتها فتكون مفيدة للعلم فيبقى الاعتراض على ابن الصلاح من جهة واحدة وهو انه أطلق الحكم ولم يقيده بهذا النوع ولو قيده بهذا النوع لسلم من الاعتراض على هذا القول فإنه وإن قل القائلون في غاية القوة
على ان هذا الحكم مع صحته لا تحصل منه فائدة تامة وغنما تحصل الفائدة التامة فيما لو ميز هذا النوع من غيره بالفعل لا سيما إذا بين ما يمكن بيانه من القرائن وأما ما لا يمكن بيانه وإن كان به تمام الإفادة فإن الأدنى في فن التمييز والنقد يسلمه للأعلى فيه على هو الجاري في كل فن
ولذا قال بعض أنصار ابن الصلاح بعد أن ذكر أن الخبر المحتف بالقرائن ثلاثة أنواع أحدها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ حد التواتر وثانيها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل وثالثها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة المطلع على العلل
وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها أن الأول يختص بالصحيحين والثاني بما له طرق متعددة والثالث بما رواه الأئمة ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد فلا يبعد حينئذ القطع بصدقه ا هـ
واعترض بعضهم على قوله وكون غيره لا يحصل له العلم لا ينفي حصوله

للمتبحر المذكور فقال حصول ما ذكر ليس محل النزاع إذ الكلام فيما هو سبب العلم للخلق ولا يخفى أن الكلام إنما هو في حصول العلم لمن تشبث بأسبابه وسلك طريقه وأما غيره فإما أن يسلم ذلك لأربابه وأما أن يتشبث بأسبابه
الوجه الثاني أنه لم يقتصر على ما ذهب إليه بعض المعتزلة الذي أشار قرينه العلامة ابن عبد السلام إلى انه سرى على أثرهم فيه بل زاد على ذلك فإنهم قالوا إن عمل الأمة بموجب خبر يقتضي الحكم بصحته
وأما هو فقال إن تلقي الأمة للصحيحين بالقبول يقتضي الحكم بصحة جميع ما فيهما من الأحاديث سوى ما استثنى من ذلك فحكم على ما لا يحصى من الأحاديث المختلفة المراتب بحكم واحد وهو القطع بصحتها لوجودها في كتابين تلقتهما الأمة بالقبول
وأما هم فإنهم حكموا على أحاديث مخصوصة قد وصفت بوصف خاص وهو عمل الأمة بموجبها نحو لا وصية لوارث بحكم خاص يلائمه وهو الحكم بصحتها ومع هذا فقد خالفهم الجمهور منا ومنهم لما ذكروا وشتان ما بين قولهم وقول ابن الصلاح
هذا وقد ذكرنا سابقا قول ابن حزم وهو قد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث ا هـ
وقد استدل بهذا الحديث من يقول بجواز نسخ القرآن بالسنة قال الفخر في المحصول نسخ القرآن بالسنة المتواترة جائز واقع وقال الشافعي لم يقع ثم ذكر أن الذين قالوا إنه جائز واقع استدلوا بقوله عليه الصلاة و السلام لا وصية

لوارث فإنه نسخ الوصية للأقربين وأما آية الميراث فإنها لا تمنع الميراث لإمكان الجمع
ثم قال وهذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية على أن قوله عليه الصلاة و السلام لا وصية لوارث خبر واحد ولو كان متواترا لوجب أن يكون الآن متواترا لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب بقاؤه متواترا وحيث لم يبق الآن متواترا علمنا أنه ما كان تواترا في الأصل فالقول بأن الآية صارت منسوخة به يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز بالإجماع
وقال بعض المحققين ن نسخ القرآن بالسنة لم يجوزه الشافعي ولا أحمد في المشهور عنه وجوزه في الرواية الأخرى وهو قول أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وقد احتجوا على ذلك بأن الوصية للوالدين والأقربين نسخها قوله إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث
وليس المر كذلك فإن الوصية للوالدين والأقربين إنما نسختها آية المواريث كما اتفق على ذلك السلف فإنه قال بعد ذكر الفرائض ( تلك حدود الله ) الآية فأبان أنه لا يجوز أن يزاد أحد على ما فرض الله له وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة و السلام إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وإلا فهذا الحديث إنما رواه أبو داود ونحوه من أصحاب السنن وليس في الصحيحين وإذا كان من أخبار الآحاد فلا يجوز أن يجعل ناسخا للقرآن وبالجملة فلم يثبت أن شيئا من القرآن نسخ بسنة بلا قرآن
الوجه الثالث أنه بنى الحكم على تلقي الأمة لهما بالقبول ولم يبين ماذا أراد بالأمة ولا ماذا أراد بتلقيها لهما بالقبول وهذان الأمران غير بينين هنا في أنفسهما

فكان حقه أن يبين ما أراد بهما لئلا يذهب الذهن كل مذهب ولئلا يظن به أنه يقصد بالإبهام والإيهام وإن كان ما علم من حاله يدل على أنه بريء من ذلك
فإن أراد بالأمة علماءها وهو الظاهر فعلماء الأمة في هذا المقام ثلاثة أقسام المتكلمون والفقهاء والمحدثون أما المتكلمون فقد عرف من حالهم أنهم يردون كل حديث يخالف ما ذهبوا إليه ولو كان من الأمور الظنية فإذا لأورد عليهم من ذلك حديث صحيح عند المحدثين أولوه إن وجدوا تأويله قريب المأخذ أو ردوه مكتفين بقولهم هذا من أخبار الآحاد وهي لا تفيد غير الظن ولا يجوز البناء على الظن في المطالب الكلامية
فمن ذلك حديث تحاجب الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله تبارك وتعالى للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز و جل من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله عز و جل ينشئ لها خلقا ا هـ
وهذا الحديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أما مسلم فأخرجه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأما البخاري فأخرجه في تفسير سورة ق بهذا اللفظ من طريق عبد لارزاق عن

همام عن أبي هريرة وأخرجه في موضع آخر من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ اختصمت الجنة والنار إلى ربهما الحديث وفيه أنه ينشئ للنار خلقا
وقد ذهب المحققون إلى أن الراوي أراد أن يذكر الجنة فذهل فسبق لسانه إلى النار قال في شرح البخاري عند قوله فلا تمتلئ حتى يضع رجله في مسلم حتى يضع الله رجله وأنكر ابن فورك لفظ رجله وقال إنها ثابتة وقال ابن الجوزي هي تحريف من بعض الرواة ورد عليهما برواية الصحيحين بها وأولت بالجماعة كرجل من جراد أي يضع فيها جماعة وأضافهم إليه إضافة اختصاص
وقال محيي السنة القدم والرجل في هذا الحديث من صفات الله تعالى المنزهة عن التكييف والتشبيه فالإيمان بها فرض الامتناع عن الخوض فيها واجب فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم والخائض فيها زائغ والمنكر معطل والمكيف مشبه ( ليس كمثله شيء )
وقال في شرح مسلم هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وقد مر بيان اختلاف العلماء فيها على مذهبين
أحدهما وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين انه لا نتكلم في تأويلها بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد

والثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث
فهذا الحديث ونظائره وهي كثيرة يبعد على المتكلم أن يقول بصحتها فضلا عن أن يجزم بذلك وإذا ألجئ إلى القول بصحتها لم يأل هدا في تأويلها ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه بحيث يعلم السامع ان المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن
وقد نشأت بسبب ذلك عداوة شديدة بين المتكلمين والمحدثين يعرفها من نظر في كتب التاريخ حتى إن المتكلمين سموا جمهور المحدثين بالمشبهة والمحدثين سموهم بالمعطلة
وأما الفقهاء فقد عرف من حالهم أنهم يؤولون كل حديث يخالف ما ذهب إليه علماء مذهبهم ولو كان من المتأخرين أو يعارضون الحديث بحديث آخر ولو كان غير معروف عند أئمة الحديث والحديث الذي عارضوه ثابت في الصحيحين بل مما أخرجه الستة ومن نظر في شروح الصحيحين اتضح له المر
وقد ترك بعضهم المجاملة للمحدثين فصرح بان ترجيح الصحيحين على غيرهما ترجيح من غير مرجح والذين جاملوا اكتفوا بدلالة الحال وقد أشار إلى ذلك العز بن عبد السلام في كتاب القواعد فقال ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده
وقد رأينا يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب منه غاية العجب من غير استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد

إمامه وتعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبعده
فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح فسبحان الله ما اكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته وفقنا الله لاتباع الحق أين كان وعلى لسان من ظهر ا هـ
وقد أكثروا من الاعتراض على قول ابن الصلاح عن الأئمة تلقت الصحيحين بالقبول فقال بعضهم إن ما ذكره من تلقي الأمة للصحيحين بالقبول مسلم ولكنه لا يختص بهما فقد تلقت الأمة سنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرها بالقبول ومع ذلك فلم يذهب أحد إلى الحكم بصحة ما فيها بمجرد ذلك
وقال بعضهم إن أراد بالأمة كل الأمة فلا يخفى فساده لأن الكتابين إنما حسنا في المئة الثالثة بعد عصر البخاري وأئمة المذاهب المتبعة وإن أراد بالأمة بعضها وهم من وجد بعد الكتابين فهم بعض الأمة فلا يستقين دليله الذي قواه بتلقي الأمة وثبوت العصمة لهم
وهذا القول عجيب وكأن قائله لم ينظر في أصول الفقه في كتاب الإجماع ولنذكر عبارة تنبه على ما في قوله من الخطأ ولنقتصر عليها فقد كثر الاستطراد في هذا الكتاب وهو مما يخشى منه الإملال أو تشتيت البال
قال الغزالي في المستصفى ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة وهو فاسد لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع

حجة أعني الكتاب والسنة والعقل لا تفرق بين عصر وعصر فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين ا هـ
وقال بعضهم إن تلقي الأمة لهما بالقبول من جهة كون ما فيهما من الأحاديث أصح مما في سواهما من الكتب الحديثية لجلالة مؤلفيها في هذا المر وتقدمهما على من سواهما في ذلك والتزامهما في كتابيهما أن لا يوردا فيهما غير الصحيح
وهذا يدل على أنهما أرجح مما سواهما على طريق الإجمال ولا يدل ذلك على ان ما فيهما مجزوم بصحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولذلك أقدم الدارقطني وغيره على الانتقاد عليهما مع ان انتقادهم عليهما كان قاصرا على ما يتعلق بالأسانيد وأما الانتقاد عليهما من جهة ما يتعلق بالمتون من جهة مخالفتهما للكتاب أو للسنة المتواترة ونحو ذلك فلم يتصدوا له لأن ذلك من متعلقات علماء الكلام والأصول
وقد حمل انتقاد الدارقطني وغيره ابن الصلاح على ان يستثنى ما انتقدوه من إفادة العلم مع أن فيما انتقدوه ما الجواب عنه بين وفيما لم ينتقدوه ما هو دون ما انتقدوه
ولا يخفى ان هذا الاستثناء قد أضعف قوة الحكم في غيره ولذا أقدم بعض أنصاره على أن يستثنى شيئا آخر وهو ما وقع التعارض فيه من الأحاديث بحيث لا يمكن الجمع ولا وقوع النسخ مع عدم ظهور الرجحان في جهته وذلك لاستحالته إفادة المتعارضين من كل وجه العم ومع ذلك فقد حاول أن يجعل الخلاف لفظيا بأن يقال من قال إنه لا يفيد العلم أراد العلم اليقيني ومن قال إنه يفيد العلم أراد العلم الذي لم يصل إلى درجة اليقين
وأما المنتصرون لابن الصلاح فالسابق منهم إلى ذلك هو العلامة ابن تيمية وقد وقفت له على مقالتين تصدى فيهما إلى هذه المسألة الجليلة الشأن محاولا تقريبها من القواعد الكلامية لتكون أقرب إلى قبول المتكلمين ومن نحا نحوهم فصارت

سهلة الحل لا سيما إذا تزحزح كل من الفريقين عن مكانه قليلا وسعى نحو الآخر
أما المقالة الأولى فقد كانت جوابا لسائل له هل أحاديث الصحيحين تفيد اليقين وهل فيهما حديث متواتر وقد أوردتها هنا على طريق الاختصار
قال لفظ المتواتر يراد به معان إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم لكن من الناس من لا يسمي متواترا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلا بكثرة عددهم فقط ويقولون إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية
وهذا قول ضعيف والصحيح ما عليه الأكثرون أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر يحصل بمجموع ذلك وقد يحصل بطائفة دون طائفة
وأيضا فالخبر الذي تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا بموجبه يفيد العلم عند جماهير السلف والخلف وهذا في معنى المتواتر لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض ويقسمون الخبر متواتر ومشهور وخبر واحد
وإذا كان كذلك فأكثر متون الصحيحين معلومة متيقنة تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق وأجمعوا على صحتها وإجماعهم معصوم من الخطأ كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة وإن كان مستندهم خبر واحد أو قياسا أو عموما فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ
ثم هذه الأحاديث التي أجمعوا على صحتها قد تتواتر أو تستفيض عند بعض

دون بعض وقد يحصل بصدقها لبعضهم لعلمه بصفات المخبرين وما اقترن بالخبر من القرائن والضمائم التي تفيد العلم
والصحيح الذي عليه الجمهور أن التواتر ليس له عدد محصور والعلم عقب الإخبار يحصل في القلب ضرورة كما يحصل في القلب ضرورة كما يحصل في القلب ضرورة كما يحصل الشبع عقب الكل والري عقب الشرب وليس لما يشبع كل واحد أو يرويه قدر معين بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام وقد يكون لجودته كاللحم وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح أو غضب أو حزن أو نحو ذلك
كذلك العلم الحاصل عقب الخبر تارة يكون لكثرة المخبرين وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم وإن كانوا كفارا
وتارة يكون لدينهم وضبطهم فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين لا يوثق بدينهم وضبطهم
وتارة يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر مع العلم بأنهما لم يتواطآ فإنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك مثل ما يروي حديثا طويلا فيه فصول ويرويه آخر كذلك ولم يكن قد لقيه
وتارة يحصل من العلم بالخبر لمن عنده من الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما اخبروا به ما لا يحصل لمن ليس مثل ذلك
وتارة يحصل العلم بالخبر لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم ولم يكذبه أحد منهم فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان كما يمتنع تواطؤهم على الكذب
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد علم أن من قيد العلم بعدد معين وسوى بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطا عظيما ولهذا كان التواتر ينقسم إلى عام وخاص فأهل العلم بالحديث والفقه قد يتواتر

عندهم في السنة ما لم يتواتر عن د العامة كوجوب الشفعة وحمل العاقلة العقل ونحو ذلك
وإذا كان الخبر قد يتواتر عند قوم دون قوم فقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه كما يجب ذلك في نظائره ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحته كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من اهل العلم فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة
وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم إذ غير العالم لا يكون له قول وغنما القول للعالم فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله كذلك من لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم ا هـ
وخلاصة ما يتعلق به في هذه المقالة أن اكثر متون الصحيحين معلومة متيقنة قد تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق وأجمعوا على صحتها قد تتواتر أو تستفيض عند بعض دون بعض وقد يحصل العلم بصحتها لبعض لعلمه بصفات المخبرين وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلم دون بعض لعدم علمه بذلك
فعلى من حصل له العلم بذلك أن يجري على مقتضاه من التصديق بها والعمل بموجبها ومن لم يحصل به العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحتها كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها لمن أجمع عليها من أهل العلم إذ لا يتم إجماع إلا إذا سلم غير العالم للعالم فإن لم يسلم لم يعتد بعدم تسليمه إذ ليس لغير العالم قول وإنما القول للعالم
وأما المقالة الثانية فقد أوردها في رسالة جعلها في قواعد التفسير وقد وقف عليها العلامة البلقيني كما يشعر به ما نقلناه عنه سابقا من أن بعض الحفاظ

المتأخرين نقل مثل قول ابن الصلاح عن جماعة فإنه عنى ببعض الحفاظ المتأخرين صاحب هذه المقالة فيما يظهر
وقد أوردها صاحبها في فصل من الرسالة المذكورة أورد فيه أولا ان ما ينقل عن المعصوم إن كان مما لا يمكن معرفة الصحيح منه من غيره فعامته مما لا يحتاج إليه وذلك كمدار سفينة نوح عليه السلام ونوع خشبها الذي صنعت منه ونحو ذلك وأما ما يحتاج إليه فإن الله تعالى قد نصب على الحق فيد دليلا
ثم قال والمقصود ان الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا كما امتنع تأن يكون كذبا فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة وإنما يكون في بعضها فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثل ما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة
ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة مثل حديث اشتراء النبي صلى الله عليه و سلم البعير من جابر فإن من تأمل طرقه علم قطعا أن الحديث صحيح وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار اليمن
وقد بين البخاري في صحيحه فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لأن غالبه من هذا ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق والأمة لا تجتمع على خطأ فلو كان الحديث كذبا في نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع
وإن كنا نحن بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على الحكم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون

الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنا وظاهرا ولهذا كان جمهور العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم
وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك ولكن كثير من أهل الكلام أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق ابن فورك
وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك واتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل وابن الجوزي وابن الخطيب والآمدي ونحو هؤلاء
والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعية وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية
وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبا للقطع به فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة
والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر والاتفاق في العادة

يوجب العلم بمضمون المنقول لكن هذا ينتفع به كثيرا من علم أحوال الناقلين وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيىء الحفظ والحديث المرسل ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يلح لغيره
قال أحمد قد أكتب حديث الرجل لأعتبره ومثل هذا بعبد الله بن لهيعة قاضي مصر فإنه كان من أكثر الناس حديثا ومن خيار الناس لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط فصار يعتبر بذلك ويستشهد به وكثيرا ما يقترن هو والليث بن سعد والليث حجة ثبت غمام
وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الرذي فيه سوء حفظ فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء يتبين لهم غلطه فيها بأمور يستدلون بها ويسمون هذا علم علل الحديث وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه وغلطه فيه عرف إما بسبب ظاهر أو خفي
كما عرفوا أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة وهو محرم وأنه صلى في البيت ركعتين وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حلالا ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط وكذلك أنه اعتمر أربع عمر وعلموا أن قول ابن عمر إنه اعتمر في رجب مما وقع فيه الغلط وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع وأن قول عثمان لعلي كنا يومئذ خائفين مما وقع فيه الغلط وان ما وقع في بعض طرق البخاري أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا آخر مما وقع فيه الغلط وهذا كثير
والناس في هذا الباب طرفان
طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به

وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا في مسائل العلم مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط
وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها انه صدق وقد يقطع بذلك فعليه أدلة يعلم بها انه كذب ويقطع بذلك مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل
وخلاصة ما يتعلق به الغرض في هذه المقالة أن جمهور ما في البخاري ومسلم من الأحاديث مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لأنه قد روي من وجهين مختلفين من غير مواطأة وما كان كذلك فإنه في العادة يوجب العلم بصحة الرواية ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والمراد بأهل العلم هنا أهل العلم بالحديث كما ان المراد بأهل العلم في أمر الأحكام أهل العلم بالأمر والنهي وأن أهل العلم كما قد يستشهدون بحديث السيئ الحفظ والمجهول ويعتبرون به لما في تعدد الطرق من تقوية الظن في صحة الرواية قد يحكمون بضعف حديث الثقة الصدوق الضابط بأسباب تحملهم على ذلك ويسمى العلم الذي يعرف به مثل هذا بعلم علل الحديث وهو من أشرف علومهم وكثيرا ما وقفوا بسببه على غلط وقع في حديث رواه ثقة ضابط ومن ذلك ما وقع في بعض طرق البخاري أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا آخر وهذا مما وقع فيه الغلط ومثل هذا كثير
والناس في هذا الأمر طرفان طرف يشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة عند أهل العلم بالحديث وهؤلاء فريق من أهل الكلام وطرف كلما وجد حديثا روي بإسناد ظاهره الصحة جعله من جنس ما جزم أهل العلم بصحته فإذا عارض حديثا صحيحا معروفا أخذ يتأوله بتأويلات باردة وهؤلاء وهؤلاء فريق ممن ينتمي إلى الحديث

وكما أن على الحديث الصحيح أدلة يعلم بها انه صحيح النسبة وقد تصل الأدلة في القوة إلى أن توصل إلى علم اليقين كذلك عل الحديث الذي ليس بصحيح أدلة يعرف بها حاله وقد أوردنا فيما سبق مقالة تتعلق بتفرق الناس في أمر الحديث إلى ثلاثة وبينا حال كل فرقة منها جعلنا الله من الفرقة الوسطى بيمنه
وقد تعرض في الجواب بطريق العر1 لذكر شيء مما وقع في الصحيحين وغيرهما من الوهم في الرواية حيث قال وقد يقال إن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله وبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول إنه لم يبدل شيء من ألفاظهما فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه و سلم لم يعلم الحق من الباطل فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بما فيهما في مواضع
وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة بينه في المقصود تبين غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة وسائر نصوص الكتب يناقضها
وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه و سلم فإنه إذا وقع في سنن أبي داود أبو الترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يبين ضعف تلك بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة علط فيها الراوي وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها

مثل ما روي إن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم وأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار كما قد بسط في موضعه والقرآن يدل على غلط هذا وبين أن الخلق في ستة أيام وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الحد
وكذلك ما روي أنه صلى الله عليه و سلم صلى الكسوف بكوعين أو ثلاثة فإن الثابت المتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيحين وغيرهما عن عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم حديث الثلاثة والأربع فإن النبي صلى الله عليه و سلم إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع انه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم
فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معها الطرق التي تبين ذلك الغلط كما قد بسطنا عليه في موضعه ا هـ
تنبيه ما ذهب إليه هذا المحقق من أن ما وقع في بعض طرق البخاري في حديث تحاج الجنة والنار من أن النار لا تمتلئ حتى حتى ينشئ الله لها خلقا آخر مما وقع فيه الغلط قد مال إليه كثير من المحققين كالبلقيني وغيره
ومن الغريب في ذلك محاولة بعض الأغمار ممن ليس له إلمام بهذا الفن لا من جهة الرواية ولا من جهة الدراية لنسبة الغلط إليه كأنه ظن أن النقد قد سد بابه على كل أحد أو ظن أن النقد من جهة المتن لا يسوغ لأنه يخشى أن يدخل منه أرباب الأهواء

ولم يدر أن النقد إذا أجري على المنهج المعروف لم يستنكر وقد وقع ذلك لكثير من أئمة الحديث مثل الإسماعيلي فإنه بعد أن ورد حديث يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة الحديث قال وهذا خبر في صحته نظر من جهة أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد فكيف يجعل ما بأبيه خزيا له مع إخباره بأن الله قد وعده ان لا يجزيه يوم يبعثون وعلمه بأن لا خلف لوعده فانظر كيف أعل المتن بما ذكر
فإن قلت إن كثيرا مما انتقدوه من هذا النوع يمكن تأويله بوجه يدفع النقد قلت إذا أمكن التأويل على وجه يعقل فلا كلام في ذلك وإن كان على وجه لا يعقل لم يلتفت إليه ولو فتح هذا الباب أمكن حمل كل عبارة على خلاف ما تدل عليه ولذا قال بعض علماء الأصول إن في الأحاديث ما لا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم وغير ظاهرها بعيد عن فصاحته صلى الله عليه و سلم
قال الحافظ زين الدين العراقي وروينا عن محمد بن طاهر المقدسي ومن خطه نقلت قال سمعت أبا عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي ببغداد يقول قال لنا أبو محمد بن حزم ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين لكل واحد منهما حديث تم عليه في تخريجه الوهم مع إتقانهما وحفظهما وصحة معرفتهما
فذكر من عند البخاري حديث شريك في الإسراء وأنه قبل أن يوحى إليه وفيه شق صدره قال ابن حزم والآفة من شريك

@ 333 @

@ 334 @

@ 335 @

@ 336 @

وذكر الحديث الثاني عند مسلم حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن ابن عباس قال كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه و سلم يا نبي الله ثلاث أعطنيهن قال نعم الحديث قال ابن حزم هذا حديث موضوع لا شك في وضعه والآفة فيه من عكرمة بن عمار

@ 338 @


الفائدة السادسة
فيما يتعلق بالصحيح الزائد على الصحيحين وقد ذكرنا فيما سبق أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك فمن أراد معرفة الصحيح الزائد على ما فيهما فلطلبه في الكتب المصنفة في الصحيح المجرد وفي الكتب المستخرجات على الصحيحين وفي كلام جهابذة المحدثين فإذا نصوا على صحة حديث أخذ به
المصنفات في الصحيح المجرد أما المصنفات في الصحيح المجرد فمنها المستدرك على الصحيحين للحافظ

أبي عبد الله الحاكم فإنه أودعه ما ليس في الصحيحين مما رأى أنه موافق لشرطيهما أو شرط أحدهما وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما مشيرا إلى القسم الول بقوله هذا صحيح على شرط الشيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم وإلى القسم الثاني بقوله هذا صحيح الإسناد وربما أورد فيه ما لم يصح عنده منبها على ذلك وهو متساهل في التصحيح
وقد لخص الذهبي مستدركه وأبان ما فيه من ضعف أو منكر وهو كثير وجمع جزءا في الأحاديث التي فيه وهي موضوعة وهي نحو مئة
وقال أبو سعد الماليني طالعت المستدرك الذي ألفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثا على شرطيهما
قال الذهبي هذا إسراف وغلو من الماليني وإلا ففيه جملة وافرة على شرطيهما وجملة كثيرة على شرط أحدهما ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح وفي بعض ذلك موضوعات وهذا المر مما يتعجب منه فإن الحاكم كان من الحفاظ البارعين في هذا الفن ويقال إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد اعترته غفلة وكان ميلاده في سنة 321 ووفاته في سنة 405 فيكون عمره أربعا وثمانين سنة
وقال الحافظ ابن حجر إنما وقع للحاكم التساهل لأنه سود الكتاب لينقحه فعالجته المنية ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه قال وقد وجدت في قريب نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك إلى هنا انتهى إملاء الحاكم قال وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة والتساهل في القدر المملى قليل بالنسبة إلى ما بعده
ومراد الحاكم بقوله هذا صحيح على شرطيهما أن يكون رجال ذلك الإسناد المحكوم عليه بذلك قد روى الشيخان عنهم في كتابيهما ويؤيد ذلك

تصرف الحاكم في كتابه فإنه إذا كان الحديث الذي عنده مما قد أخرج الشيخان معا أو أحدهما لرواته قال هذا صحيح على شرطيهما أو شرط أحدهما وإذا كان مما لم يخرج الشيخان لجميع رواته قال صحيح الإسناد فقط
ويظهر لك ذلك مما تكلم به في حديث من طريق أبي عثمان فإنه حكم عليه بأنه صحيح الإسناد ثم قال وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ولو كان النهدي لحكمت بأن الحديث على شرطيهما وإذا خالف الحاكم ذلك في بعض المواضع حمل على السهو والنسيان الذي كان يعتريه إذ ذاك كثيرا
ولا ينافي ذلك قوله في خطبة مستدركه وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما لأن المثلية قد تكون في العيان وقد تكون في الأوصاف إلا أنها في الأول مجاز وفي الثاني حقيقة فاستعمل المجاز حيث قال عقب ما يكون عن نفس رواتهما هذا صحيح الإسناد قال رجل لشريح إني قلت لهذا اشتر لي مثل هذا الثوب الذي معك فاشتري ذلك الثوب بعينه فقال شريح لا شيء أشبه بالشيء من الشيء عينه وألزمه بأخذ الثوب
وتتحقق المثلية في الأوصاف بأن يكون من لم يخرج عنه الشيخان في الصحيحين مثل من خرجا عنه فيهما أو أعلى منه والظاهر أنه يريد بالمثلية عندهما لا عند

غيرهما ويعرف ذلك إما بنصهما على أن فلانا مثل فلان أو أرفع منه وقلما يوجد لك وإما بالألفاظ الدالة على مراتب التعديل كأن يقول في بعض من احتجا به ثق أو ثبت أو صدوق أو لا بأس به أو غير لك من ألفاظ التعديل ثم يوجد عنهما أنهما مثل ذلم أو أعلى منه في بعض من لم يخرجا له في كتابيهما لأن ألفاظ الجرح والتعديل هي معيار مراتب الرواة
وقال الحافظ العراقي قال النووي إن المراد بقولهم على شرطيهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما لأن ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما وقد أخذ هذا من ابن الصلاح فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال إنه أودعه ما رآه على شرط الشيخين قد أخرجاه عن رواته في كتابيهما إلى آخر كلامه
وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلا ثم يتعرض عليه بأن فيه فلانا ولم يخرج له البخاري وكذلك فعل الذهبي في مختصر المستدرك وليس ذلك منهم بجيد فإن الحاكم صرح في خطبة كتابه المستدرك بخلاف ما فهموه عنه فقال وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها وفيه نظر
وقال ولكن هنا أمر فيه غموض لا بد من الإشارة أنهم لا يكتفون في التصحيح بمجرد حال الراوي في العدالة والاتصال من غير نظر إلى غيره بل ينظرون في حاله مع من روى عنه في كثرة ملازمته له أو قلتها أو كونه من بلده ممارسا لحديثه أو غريبا عن بلد من اخذ عنه وهذه أمور تظهر بتصفح كلامهم وعملهم في ذلك
قال الحافظ ما اعترض به شيخنا على ابن دقيق العيد والذهبي ليس بجيد

لأن الحاكم استعمل لفظه في أعم من الحقيقة والمجاز في الأسانيد والمتون دل على ذلك صنعه فإنه تارة يقول على شرطهما وتارة على شرط البخاري وتارة على شرط مسلم وتارة صحيح الإسناد ولا يعزوه لأحدهما
وأيضا فلو قصد بكلمة مثل معناها الحقيقي حتى يكون المراد واحتج بغيرها ممن فيهم من الصفات مثل ما في الرواة الذين خرجا عنهم لم يقل قط على شرط البخاري فإن شرط مسلم دونه فما كان على شرطه فهو على شرطهما لأنه حوى شرط مسلم وزاد
قال ووراء ذلك كله أن يروى إسناد ملفق من رجالهما كسماك عن عكرمة عن ابن عباس فسماك على شرط مسلم فقط وعكرمة انفرد به البخاري والحق أن هذا ليس على شرط واحد منهما
وأدق من هذا أن يرويا عن أنس ثقات ضعفوا في أناس مخصوصين من غير حديث الذين ضعفوهم فيهم فيجيء عنهم حديث من طريق من ضعفوا فيه برجال كلهم في الكتابين أو أحدهما فنسبته انه على شرط من خرج له غلط طان يقال في هشيم عن الزهري كل من هشيم والزهري خرجا له فهو على شرطيهما فيقال بل ليس على شرط واحد منهما لأنها إنما أخرجا عن هشيم من غير حديث الزهري فإنه ضعف فيه لأنه كان دخل عليه فأخذ عنه عشرين حديثا فلقيه صاحب له وهو راجع فسأله رؤيته وكانت ثم ريح شديدة فذهبت بالأوراق فصار هشيم يحدث بما علق منها بذهنه ولم يكن أتقن حفظهما فوهم في أشياء منها فضعف في الزهري بسببها وكذا همام ضعيف في ابن جريح مع أن كلا منهما أخرجا له لكن لم يرجا له عن ابن جريح شيئا
فعلى من يعزو إلى شرطهما أو شرط واحد منهما أن يسوق ذلك السند بنسق رواية من نسب إلى شرطه ولو في موضع من كتابه وكذا قال ابن الصلاح في شرح مسلم من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط

الصحيح فقد غفل وأخطأ بل لك متوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه وعلى أي وجه اعتمد عليه
وقد اختلف في حكم ما انفرد الحاكم بتصحيحه فقال ابن الصلاح الأولى أن نتوسط في أمره فنقول ما حكم بتصحيحه ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم بن حبان البستي ا هـ
وظاهر هذا الكلام أن ما انفرد بتصحيحه ولم يكن لغيره فيه حكم ان يجعل دائرا بين الصحيح والحسن احتياطا وقد ظن بعضهم ان كلامه دل على انه يحكم عليه بالحسن فقط فنسب إليه التحكم في هذا الحكم
وقال كثير من المحدثين إن ما انفرد الحاكم بتصحيحه يبحث عنه ويحكم عنه ويحكم عليه بما يقضي به حاله من الصحة أو الحسن أو الضعف
والذي حمل ابن الصلاح على ما قال هو ما ذهب إليه من أن أمر التصحيح قد انقطع ولم يبق له أهل والصحيح أنه لم ينقطع وانه سائغ لمن كملت عنده أدواته وكان قادرا عليه
ومن الكتب المصنفة في الصحيح المجرد صحيح الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وهو شيخ ابن حبان القائل فيه ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كان السنن كلها بين عيينه غيره
وصحيحه أعلى مرتبة من صحيح ابن حبان لشدة تحريه حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد وقد فقد أكثره من زمان
ومن الكتب المصنفة فيه صحيح الإمام أبي حاتم محمد بن حبان التميمي البستي قال الحاكم كان من أوعية العلم في الفقيه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال وقال غيره كان عارفا بالطب والنجوم والكلام والفقه رأسا في معرفة الحديث وقد أنكروا عليه قوله النبوة العلم والعمل وحكموا عليه

بالزندقة وهجروه وكتبوا فيه إلى الخليفة فأمر بقتله فنجاه الله تعالى ثم نفي من سجستان إلى سمرقند وكانت وفاته سنه أربع وخمسين وثلاث مئة
واسم مصنفه التقاسيم والأنواع وترتيبه مبتدع فإنه ليس على الأبواب ولا على المسانيد ولذا صار الكشف منه عسيرا
وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب وعمل له الحافظ أبو الفضل العراقي أطرافا وجرد أبو الحسن الهيثمي زوائده على الصحيحين في كجلد
وقد نسبوا لابن حبان التساهل في التصحيح إلا أن تساهله أقل من تساهل أقل من تساهل الحاكم قال الحازمي كان ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم
وعلى كل حال ينبغي تتبع صحيحيه والبحث عما فيه وكذلك صحيح ابن خزيمة فكم فيه من حديث حكم له بالصحة وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن
وأنكر بعضهم نسبة التساهل إلى ابن حبان فقال إن كانت نسبته إلى التساهل باعتبار وجدان الحسن في كتابه فهي مشاحة في الاصطلاح لنه يسميه صحيحا وغن كانت باعتبار خفة شروطه فإنه يخرج في الصحيح ما كان رواية ثقة غير مدلس سمع من شيخه وسمع منه الآخذ عنه ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع
وإذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة ولم يأت بحديث منكر فهو عنده ثقة وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذه حاله ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف اصطلاحه ولا اعتراض عليه فإنه لا مشاحة في ذلك فابن حبان في ذلك فابن حبان وفى بما التزمه من الشروط بخلاف الحاكم

ومن الكتب المؤلفة في الصحيح المجرد السنن الصحاح لسعيد بن السكن ومن مظان الصحيح المختارة للحافظ ضياء الدين المقدسي وهو أحسن من المستدرك ولكنها لم تكمل وهي مرتبة على المسانيد
المستخرجات على الصحيحين الاستخراج أن يعمد حافظ إلى صحيح البخاري مثلا فيورد أحاديثه حديثا حديثا بأسانيد لنفسه غير ملتزم فيها ثقة الرواة من غير طريق البخاري إلى أن يلتقي معه في شيخه أو فيمن فوقه
لكن لا يسوغ للمخرج أن يعدل عن الطريق التي يقرب فيها اجتماعه مع مصنف الأصل إلى الطريق البعيدة إلا لغرض مهم من علو أو زيادة مهمة او نحو ذلك وربما ترك المستخرج أحاديث لم يجد له بها إسنادا مرضيا وربما علقها عن بعض رواتها وربما ذكرها من طريق صاحب الأصل
وقد اعتنى كثير من الحفاظ بالاستخراج لما فيه من الفوائد المهمة وقصروا ذلك غالبا على صحيح البخاري وصحيح مسلم لكونهما العمدة في هذا العلم
وممن استخرج على صحيح البخاري أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو بكر أحمد بن محمد البرقاني
وممن استخرج على صحيح مسلم أبو جعفر أحمد النيسابوري وأبو بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري وهو ممن يشارك مسلما في أكثر شيوخه وأبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائني روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم
قال الحافظ ابن حجر إن أبا عوانة يقول في مستخرجه بعد أن يسوق طرق مسلم كلها من هنا لمخرجه ثم يسوق أسانيد تجتمع فيها مع مسلم فيمن فوق ذلك وربما قال من هنا لم يخرجاه ولا يظن انه يعني البخاري ومسلما فإني

استقريت صنيعه في ذلك فوجدته يعني مسلما وأبا الفضل أحمد بن سلمة فإنه كان قرين مسلم وصنف لمثل مسلم
ومن المستخرجين على كل منهما أبو نعيم الأصفهاني وأبو عبد الله بن الخرم وأبو ذر الهروي وأبو محمد الخلال وأبو مسعود بن سليمان بن إبراهيم الأصفهاني ولأبي بكر بن عبدان الشيرازي مستخرج عليهما في مؤلف واحد
وقد استخرج محمد بن عبد الملك بن أيمن على سنن أبي داود وأبو علي الطوسي على سنن الترمذي وأبو نعيم على التوحيد لابن خزيمة
وللمستخرجات فوائد كثيرة
منها ما يقع من زيادات في الأحاديث التي يوردونها لم تكن في الأصل المستخرج عليه وإنما وقعت لهم تلك الزيادات لأنهم لم يلتزموا إيراد ألفاظ ما استخرجوا عليه بل التزموا إيراد الألفاظ التي وقعت لهم الرواية بها عن شيوخهم وكثيرا ما تكون مخالفة لهم وقد تقع المخالفة في المعنى أيضا
ومنها علو الإسناد لأن مصنف المستخرج لو روى حديثا من طريق البخاري أو مسلم لوقع أنزل من الطريق الذي رواه به من المستخرج فلو روى أبو نعيم مثل حديثا في مسند أبي داود الطيالسي من طريق مسلم لكان بينه وبينة أبي داود أربعة رجال شيخان بينه وبين مسلم من طريق مسلم وشيخه فإذا رواه من غير طريق مسلم كان بين أبي نعيم وبين أبي داود رجلان فقط لأن أبا نعيم يرويه عن ابن فارس عن يونس بن حبيب عن أبي داود
ومنها تقوية الحديث بكثرة الطرق وذلك بأن يضم المستخرج شخصا آخر فأكثر مع الذي حدث مصنف الأصل عنه وربما ساق له طرقا أخرى إلى الصحابي بعد فراغه من استخراجه كما يصنع أبو عوانة
ومنها أن يكون مصنف الصحيح روى عمن اختلط ولم يبين هل سماع ذلك الحديث في هذه الرواية قبل الاختلاط او بعده فيبينه المستخرج إما تصريحا

عبارة ابن الصلاح وأما المخرج بفتح الميم فهو في الأصل بمعنى مكان الخروج فأطبق على الموضع الذي ظهر منه الحديث وهم الرواة الذين جاء عنهم
وأما التخريج فيطلق على معنيين
أحدهما إيراد الحديث بإسناده في كتاب أو إملاء وأكثر ما تقع هذه العبارة للمغاربة والأولى أن يقولوا الإخراج كما يقوله غيرهم
الثاني عزو الأحاديث إلى من أخرجها من الأئمة ومنه قيل خرج فلان أحاديث كتاب كذا وفلان له كتاب في تخريج أحاديث الإحياء ونحو ذلك
حكم الزيادات الواقعة في المستخرجات ذهب ابن الصلاح إلى أن الزيادات الواقعة في المستخرجات يحكم لها بالصحة لأنها مروية بالأسانيد الثابتة في الصحيحين أو أحدهما وخارجة من ذلك المخرج
واعترض عليه الحافظ ابن حجر في ذلك فقال هذا مسلم في الرجل الذي التقى فيه إسناد المستخرج وإسناد مصنف الأصل وفيمن بعده وأما من بين المستخرج وبين ذلك الرجل فيحتاج إلى نقد لأن المستخرج لم يلتزم الصحة في ذلك وإنما جل قصده العلو فإن حصل وقع على غرضه فإن كان مع ذلك صحيحا أو فيه زيادة فزيادة حسن حصلت اتفاقا وإلا فليس ذلك همته
قال وقد وقع ابن الصلاح هنا فيما فر منه وهو عدم التصحيح في هذا الزمان لأنه أطبق تصحيح هذه الزيادات ثم عللها بتعليل أخص من دعواه وهو كونها بذلك الإسناد وذلك إنما هو من متلقي الإسناد إلى منتهاه ا هـ
والمراد بالزيادة في كلام ابن الصلاح الزيادة الواقعة في بعض المتون المذكورة في الصحيحين أو أحدهما وأما الزيادة المستقلة فلا تدخل تحت ذلك الحكم على الإطلاق وقد وقع شيء منها في مستخرج أبي عوانة على مسلم قال بعض أهل

الأثر قد وقع في مستخرج أبي عوانة أحاديث كثيرة زائدة على أصله وفيها الصحيح والحسن بل والضعيف أيضا فينبغي التحرز في الحكم عليها أيضا
وأما ما وقع فيه وفي غيره من المستخرجات على الصحيحين من زيادة في أحاديثهما أو تتمة لمحذوف أو نحو ذلك فهي صحيحة لكن مع وجود الصفات المشترطة في الصحيح فيمن بين صاحب المستخرج والراوي الذي اجتمع فيه هو وصاحب الأصل
وللحافظ السيوطي كلام مبسوط يتعلق بما نحن فيه فأحببت إيراده إتماما للفائدة قال في شرح ألفيته مقتضى كلام ابن الصلاح أن يؤخذ جميع ما وجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ممن اشترط الصحيح بالتسليم وكذا ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين وفي كل ذلك نظر من وجهين
أما الأول فلأن ابن خزيمة وابن حبان لم يلتزما ان يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي عرفها ابن الصلاح لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن وقد صرح ابن حبان بشرطه وحاصلة أن يكون الراوي عدلا مشهورا بالطلب غير مدلس سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي فإن كان يروي من حفظه فليكن عالما بما يحيل المعنى
فلم يشترط الضبط وعدم الشذوذ والعلة وشرط ابن خزيمة كشرط ابن حبان فإن ابن حبان تابع له وناسخ على منواله ومما يدل على ذلك احتجاجهما بأحاديث من يخرج لهم مسلم في المتابعات فلا يسمى صحيحه بالمعنى الذي ذكره ابن الصلاح وإن كانت صالحة للاحتجاج ما لم يظهر في بعضها علة قادحة

وأما الثاني فلأن كتاب أبي عوانة وغن سماه بعضهم مستخرجا فإن له فيه أحاديث مستقلة زائدة وإنما تحصل الزيادة في أثناء بعض المتون والحكم بصحتها متوقف على أحوال رواته فرب حديث يخرجه البخاري من طريق أصحاب الزهري ممن لم يتكلم فيه فاستخرجه الإسماعيلي من طريق آخر عن أصحاب الزهري بزيادة فيه وذلك الآخر ممن تكلم فيه ولا يحتج به ولا بزيادته فحينئذ يتوقف الحكم بصحة الزيادة على ثبوت الصفات المشترطة في الصحيح للرواة الذين بين صاحب المستخرج وبين ما اجتمع فيه كالأصل الذي استخرج عليه ا هـ
تنبيه قال ابن الصلاح الكتب المخرجة على كتاب البخاري او كتاب مسلم رضي الله عنهما لم يلتزم مصنفوها فيها موافقتهما في ألفاظ الحديث بعينها من غير زيادة ونقصان لكونهم رووا تلك الأحاديث من غير جهة البخاري ومسلم طلبا لعلو الإسناد فحصل فيها بعض التفاوت في الألفاظ وهكذا ما أخرجه المؤلفون في تصانيفهم المستقلة كالسنن الكبرى للبيهقي وشرح السنة لأبي محمد البغوي وغيرهما مما قالوا فيه أخرجه البخاري أو مسلم
فلا يستفاد من ذلك أكثر من أن البخاري أو مسلما أخرج أصل ذلك الحديث مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ وربما كان تفاوتا في بعض المعنى فقد وجدت في ذلك ما فيه بعض التفاوت من حيث المعنى
وإذا كان الأمر في ذلك على هذا فليس لك أن تنقل حديثا منها وتقول هو على هذا الوجه في كتاب البخاري أو كتاب مسلم إلا ان تقابل لفظه أو يكون الذي خرجه قد قال أخرجه البخاري بهذا اللفظ بخلاف الكتب المختصرة من الصحيحين فإن مصنفها نقلوا فيها ألفاظ الصحيحين أو أحدهما غير أن الجمع بين الصحيحين للحميدي الأندلسي منها يشتمل على زيادة تتمات لبعض الأحاديث كما قدمنا ذكره فربما نقل من لا يميز بعض ما يجده فيه عن الصحيحين او أحدهما وهو مخطئ لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من الصحيحين ا هـ

وقال بعض الباحثين في هذا المر إن الحميدي قد ميز في الأكثر تلك الزيادات من ألفاظ الصحيح فإنه يقول بعد سياق الحديث اقتصر منه البخاري على كذا وزاد فيه البرقاني مثلا كذا أو نحو ذلك وعدم التمييز إنما وقع على الأقل فإنه قد يسوق الحديث ناقلا له من مستخرج البرقاني أو غيره ثم يقول اختصره البخاري فأخرج طرفا منه ولا يبين القدر الذي اقتصر عليه فيلتبس الأمر على الواقف عليه ولا يزول عنه اللبس إلا بالرجوع إلى أصله فارتفع عنه الملام في الأكثر
وأما الجمع بين الصحيحين لعبد الحق فإنه أتى فيه بألفاظ الصحيحين فلك أن تنقل منه وتعزو ذلك للصحيحين أو لأحدهما
وقد تساهل في نسبة الحديث إلى الصحيحين أو أحدهما أيضا أكثر المخرجين للمشيخات والمعاجم والمرتبين على الأبواب فإنهم يوردون الحديث بأسانيدهم ثم يصرحون بعد انتهاء سياقه غالبا بعزوه إلى البخاري او مسلم أو إليهما معا مع اختلاف الألفاظ وغيرها يريدون أصله فلينتبه لذلك
هذا ولابن حزم مقالة في ترتيب كتب الحديث جرى فيها على ما ظهر له في ذلك ذكرها في كتاب مراتب الديانة وقد أورد السيوطي خلاصتها في كتاب التقريب فقال وأما ابن حزم فإنه قال أولى الكتب الصحيحان ثم صحيح سعد بن السكن والمنتقى لابن الجارود والمنتقى لقاسم بن أصغ
ثم بعد هذه الكتب أبي داود وكتاب النسائي ومصنف قاسم بن أصبغ ومصنف الطحاوي ومسند احمد والبزار وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة ومسند ابن راهويه والطيالسي والحسن بن سفيان والمستدرك

وابن سنجر ويعقوب بن شيبة وعلي بن المديني وابن أبي عزرة وما جرى مجراها من الكتب التي أفردت لكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم صرفا
ثم بعدها الكتب التي فيها كلامه وكرم غيره
ثم كان فيه الصحيح فهو أجل مثل مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة ومصنف بقي بن مخلد وكتاب محمد بن نصر المروزي وكتاب ابن المنذر
ثم مصنف حماد بن سلمة ومصنف سعيد بن منصور ومصنف وكيع ومصنف الزريابي وموطأ مالك وموطأ ابن أبي ذئب وموطأ ابن وهب ومسائل ابن حنبل وفقه أبي عبيد وفقه أبي ثور وما كان من هذا النمط مشهورا كحديث شعبة وسفيان والليث والأوزاعي والحميدي وابن مهدي ومسدد وما جرى مجراها فهذه طبقة موطأ مالك بعضها أجمع للصحيح منه وبعضها مثله وبعضها دونه
ولقد أحصيت ما في حديث شعبة من الصحيح فوجدته ثمان مئة حديث ونيفا مسنده ومرسلا يزيد على المئتين وأحصيت ما في موطأ مالك وما في حديث سفيان بن عيينة فوجدت في كل واحد منهما من المسند خمس ومئة ونيفا مسندا وثلاث مئة مرسلا ونيفا وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسه العمل بها وفيها أحاديث ضعيفة وهاها جمهور العلماء ا هـ
وقال الخطيب وغيره إن الموطأ مقدم على كل كتاب من الجوامع والمسانيد فعلى هذا هو بعد صحيح الحاكم وهو روايات كثيرة وأكبرها رواية القعنبي وقد روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقصان ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية ابن مصعب قال ابن حزم في رواية ابن مصعب هذا زيادة على سائر الموطآت نحو مئة حديث


المبحث الثاني
في الحديث الحسن الحديث بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر ينقسم إلى قسمين فقط صحيح وغير صحيح فالصحيح هو ما ثبتت صحة نسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وغير الصحيح هو ما ثبت عدم صحة نسبته إليه
وهو بالنظر إلينا ينقسم إلى أكثر من ذلك وبهذا الاعتبار يمكن تقسيمه على أوجه شتى
مثل أن يقال الحديث إما أن تعلم صحته مثل المشهور الذي احتفت به قرائن تفيد العلم وغما أن يعلم عدم صحته مثل الموضوعات التي تخالف ما ثبت بدليل قطعي سواء كان نقليا أو عقليا وإما أن لا يعلم صحته ولا عدم صحته مثل الأحاديث الضعيفة ونحوها
ومثل أن يقال الحديث إما أن تترجح صحته أو يترجح عدم صحته أو لا يترجح شيء منهما
ومثل أن يقال الحديث إما أن تعلم صحته أو يغلب على الظن ذلك فيه وإما أن يعلم عدم صحته أو يغلب على الظن ذلك فيه وإما أن لا يغلب على الظن شيء منهما بحيث يبقى الذهن مترددا فيه
وقد قسم كثير من المتقدمين إلى قسمين فقط صحيح وضعيف وأدرجوا الحسن في الصحيح لمشاركته له في الاحتجاج به

وقسمه الخطابي إلى ثلاثة أقسام وذلك في معالم السنن حيث قال الحديث عند أهله ثلاثة أقسام صحيح وحسن وسقيم
فالصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته
والحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامة الفقهاء
والسقيم على ثلاث طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول
قال العراقي في نكته لم أر من سبق الخطابي إلى التقسيم المذكور وإن كان في كلام المتقدمين ذكر الحسن وهو موجود في كلام الشافعي والبخاري وجماعة ولكن الخطابي نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه ابن الصلاح

والمراد بأهل الحديث هنا أكثرهم ويمكن إبقاؤه على عمومه نظرا لاستقرار اتفاقهم على ذلك بعد الاختلاف
واختلف في حد الحسن فقال الترمذي في حده كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن ذكر ذلك في كتاب العلل وهو في آخر جامعه
واعترض عليه بأنه لم يخص الحسن بصفة تميزه عن الصحيح فإن الصحيح أيضا لا يكون شاذا ولا تكون رواته متهمين ويبقى عليه أنه اشترط في الحسن أن يروى من غير وجه ولم يشترط ذلك في الصحيح
وأجيب بأن الترمذي قد ميز الحسن عن الصحيح بشيئين
أحدهما كون راويه قاصرا عن درجة راوي الصحيح وهو ان يكون غير متهم بالكذب وراوي الصحيح لا بد أن يكون ثقة وفرق بين قولنا فلان غير متهم بالكذب وبين قولنا ثقة
الثاني مجيئه من غير وجه
وقال الخطابي في حده الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله واعترض عليه بأنه ليس في عبارته تلخيص مهم وأيضا فالصحيح قد عرف مخرجه واشتهر رجاله فيقتضي أن يدخل في حد الحسن وكأنه يريد مما لم يبلغ درجة الصحيح
وقال بعضهم إن قوله في أثره وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء هو من تتمة الحد وبذلك يخرج الصحيح

الذي دخل فيما قبله فإن الصحيح يقبله جميع العلماء بخلاف الحسن فإن بعضهم لا يقبله روي عن ابن أبي حاتم أنه قال سألت أبي عن حديث فقال إسناد حسن فقلت يحتج له قال لا
وقد حاول بعضهم أن يجعل حد الخطابي موافقا لحد الترمذي فقال قول الخطابي ما عرف مخرجه هو كقول الترمذي ويروى من غير وجه وقول الخطابي اشتهر رجاله يعني بالسلامة من وصمة الكذب هو كقول الترمذي ولا يكون في إسناده من يتهم بالكذب وأما قول الترمذي ولا يكون شاذا فهو مستغنى عنه في عبارة الخطابي لأن عرفان المخرج ينافي الشذوذ
وقال بعضهم إن عرفان المخرج لا ينافي الشذوذ لأن الشاذ قد أبرز فيه جميع رجاله قد عرف فيه مخرج الحديث ذ لا يدرى من سقط
ولا يخفى ما في تطبيق أحد الحدين عن الآخر من التكلف لا سيما بعد أن تبين أن الترمذي قد حد أحد قسمي الحسن وهو الحسن لغيره والخطابي قد حد القسم الآخر وهو الحسن لذاته
وقال ابن الجوزي في حده ما فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن ويصلح البناء عليه والعمل به
واعترض على هذا الحد بأنه ليس مضبوطا بضابط يتميز به القدر المحتمل من غيره
وقال بعضهم ما ذكره ابن الجوزي مبني على ان معرفة الحسن موقوفة على معرفة الصحيح والضعيف لأن الحسن وسط بينهما

وقال بعضهم لما توسط الحسن بين الصحيح والضعيف عسر تعريفه وصار ما ينقدح في نفس الحافظ قد تقصر عبارته عنه
وقال بعضهم إنه لا مطمع في تمييز الحسن من غيره تمييزا يشفي الغليل غير أن من برع في هذا الفن يمكنه أن يقرب على الطالب مطلبه
وقد اعتنى ابن الصلاح بإيضاح حد الحسن بقدر الاستطاعة فقال بعد أن أورد الحدود الثلاثة المذكورة هنا قلت كل هذا مستبهم لا يشفي الغليل وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث جامعا بين أطراف كلامهم ملاحظا مواقع استعمالهم فتنقح لي واتضح ان الحديث الحسن قسمان
أحدهما الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه ولا هو متهم بالكذب في الحديث أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو اكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله أو بما له من شاهد وهو ورود حديث آخر بنحوه فيخرج بذلك عن أن يكون شاذا أو منكرا وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل
القسم الثاني أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير انه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من ان يكون شاذا أو منكرا سلامته من أن يكون معللا وعلى هذا القسم يتنزل كلام الخطابي
فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك وكان الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن وذكر الخطابي النوع الآخر مقتصرا كل واحد منهما على ما رأى أنه يشكل معرضا عما رأى أنه لا يشكل أو انه غفل عن البعض

وذهل والله اعلم هذا تأصيل ذلك وتوضيحه ا هـ
واعترض عليه بأنه جعل الحسن عند الترمذي مقصورا على رواية المستور وليس كذلك بل يشترك معه الضعيف بسبب سوء الحفظ والموصوف بالغلط والخطأ والمختلط بعد اختلاطه والمدلس إذا عنعن وما في إسناده انقطاع ضعيف فأحاديث هؤلاء من قبيل الحسن عنده إذا وجدت الشروط الثلاثة وهي أن لا يكون في الإسناد من يتهم بالكذب وأن لا يكون الحديث شاذا وأن يروى مثل ذلك أو نحوه من وجه آخر فصاعدا وليست كلها في درجة واحدة بل بعضها أقوى من بعض ومما يقوي هذا أنه لم يتعرض لاشتراط اتصال الإسناد ولذا وصف كثيرا من الأحاديث المنقطعة بالحسن
وأما قوله وكان الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن وذكر الخطابي الآخر مقتصرا كل واحد منهما على ما رأى أنه يشكل معرضا عما رأى أنه لا يشكل أو انه غفل عن البعض وذهل فقال بعضهم فيه
إن الخطابي لا يطلق اسم الحسن إلا على النوع الذي ذكره وهو النوع الذي يسميه من يجعل الحسن قسمين باسم الحسن لذاته وأما النوع الذي تركه وهو الذي يسمى عندهم بالحسن لغيره فهو من قبيل الضعيف عنده فتركه لذلك لا لما ذكر ويظهر أن الترمذي أيضا إذا أطلق اسم الحسن فإنما يريد به النوع الذي ذكره وهو الذي يسمى عندهم بالحسن لغيره وأما النوع الذي تركه فهو عنده من قبيل الصحيح فتركه أيضا لذلك لا لما ذكر وهذا لا ينافي إطلاق اسم الحسن على هذا النوع إذا وجدت قرينة تدل على ذلك
وأما قول بعضهم إن الترمذي قد صحح جملة من الأحاديث لا ترقى عن رتبة الحسن مع انه ممن يفرق بين الصحيح والحسن فإن فيه إبهاما فإن أراد أنه حكم بصحة أحاديث هي في رتبة الحسن لغيره فالاعتراض عليه وارد وإن أراد أنه حكم

بصحة أحاديث هي في رتبة الحسن لذاته فالاعتراض عليه غير وارد فإن كثيرا من المحدثين يدخله في الصحيح ويجعله في أدنى مراتبه ولذا قالوا إن من سمى الحسن صحيحا لا ينكر أنه دون الصحيح المقدم المبين أولا فهذا إذا اختلاف في العبارة دون المعنى
ولذا يبين من إمعان النظر في هذه وتتبع مواردها أن المحدثين الذين رأوا أنه ينبغي أن يجعل بين الصحيح والضعيف واسطة
عمد بعضهم إلى قسم من أقسام الصحيح وهو الصحيح الذي فيه شيء من الضعف فأنزله درجة وجعله واسطة بينهما وسماه بالحسن فتقبل المتبعون لآثارهم لذلك بقبول حسن فجعلوا اسم الحسن شاملا للنوعين معا غير أنهم رأوا أن يفرقوا بينهما للاحتياج إلى ذلك فسموا القسم الذي كان مدرجا في الضعيف باسم الحسن لغيره
وقد حاول محاولون أن يحدوا الحسن مطلقا مع اختلاف أمرهما فقال بعضهم الحسن هو الذي اتصل إسناده بالصدوق الضابط الذي ليس بتام الضبط أو بالضعيف الذي لم يتهم بالكذب إذا عضد عاضد مع السلامة من الشذوذ والعلة
وقال بعضهم الحسن ما خلا من العلل وكان في سنده المتصل إما راو مستور له به شاهد أو راو مشهور قاصر عن كمال الإتقان
وقال بعضهم الحسن مسند من قرب من درجة الثقة أو مرسل ثقة روي من غير وجه وسلم من شذوذ وعلة
وأما الحسن لذاته فقد عرفه بعضهم فقال هو الحديث الذي فيه علة ولا

شذوذ إذا اتصل إسناده برواة معروفين بالعدالة والضبط غير أن في ضبطهم قصورا عن ضبط رواة الصحيح
فجعله هو والصحيح سواء إلا في تفاوت الضبط فراوي الصحيح يشترط أن يكون موصوفا بالضبط التام وراوي الحسن لا يشترط أن يكون ضابطا في الجملة بحيث لا يكون مغفلا ولا كثير الخطأ وأما سائر شروط الصحيح فإنه لا بد منها في الحسن لذاته
وقد وجد في كلام المتقدمين إطلاق الحسن على ما ذكر وعلى غيره قال ابن عدي في ترجمة سلام بن سليمان المدائني حديثه منكر وعامته حسان إلا أنه لا يتابع عليه وقيل لشعبة لأي شيء لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي وهو حسن الحديث فقال من حسنه فررت وكأنهما أرادا المعنى اللغوي وهو حسن المتن
وربما أطلق على الغريب قال إبراهيم النخعي إذا اجتمعوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان أحاديثه قال ابن السمعاني إنه عنى الغرائب
ووجد للشافعي إطلاقه في المتفق على صحته ولابن المديني في الحسن لذاته وللبخاري في الحسن لغيره وبالجملة فالترمذي هو الذي أكثر من التعبير بالحسن ونوه بذكره
ولكن حيث ثبت اختلاف الأئمة في معناه حين إطلاقه فلا يسوغ إطلاق القول بالاحتجاج به بل لا بد من النظر في ذلك فما كان منه منطبقا على الحسن لذاته ساغ الاحتجاج به وما كان منه منطبقا على الحسن لغيره ينظر فيه فما كثرت طرقه يسوغ الاحتجاج به وما لا فلا


فوائد تتعلق بمبحث الحديث الحسن
الفائدة الأولى
في أن بعض الأحاديث قد يعرض لها من الأحوال ما يرفعها من درجتها إلى الدرجة التي هي فوقها
قد يعرض لبعض الأحاديث أحوال تورثها قوة وبذلك قد يرتفع الضعيف من درجته إلى درجة الحسن وقد يرتفع الحسن من درجته إلى درجة الصحيح وليس هذا الحكم خاصا بالضعيف والحسن بل يشمل الصحيح أيضا باعتبار تنوع درجاته إلا أن بحثنا الآن إنما يتعلق بهما فقط فنقول
إن الحديث الضعيف قد يكون ضعفه ممكن الزوال وقد يكون غير ممكن الزوال
فإن كان ممكن الزوال وذلك فيما إذا كان الضعف ناشئا من ضعف حفظ بعض رواته مع كونه من أهل الصدق والديانة فإذا جاء ما رواه من وجه آخر عرفنا أنه قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه فيرتفع بذلك من درجة الضعيف إلى درجة الحسن
ومثل ذلك ما إذا كان ضعفه ناشئا من جهة الإرسال كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ فإن ضعفه يزول بروايته من وجه خر فيرتفع بذلك من درجة الضعيف إلى درجة الحسن ومثل الإرسال التدليس أو جهالة بعض الرجال
وإن كان ضعفه غير ممكن الزوال كالضعف ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا فإن ضعفه لا يزول بروايته من وجه آخر فلا يرتفع بذلك من درجة الضعيف إلى درجة الحسن كحديث من حفظ على أمتي

أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء فقد اتفقوا على ضعفه مع كثرة طرقه
قال بعض الحفاظ إن هذا النوع قد تكثر فيه الطرق وغن كانت قاصرة عن درجة الاعتبار حتى يرتقي عن رتبة المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل وربما صارت تلك الطرق الواهية بمنزلة الطريق التي فيها ضعف يسير بحيث لو فرض مجيء ذلك الحديث بإسناد فيه ضعف يسير صار مرتقيا من رتبة الضعيف إلى رتبة الحسن لغيره
وكما قد يرتقي بعض الأحاديث من درجة الضعيف إلى الحسن قد يرتقي يعضها من درجة الحسن إلى درجة الصحيح وذلك في الحسن لذاته فإنك قد عرفت انه هو والصحيح سواء لا فرق بينهما إلا في أمر واحد وهو الضبط فإن رواته لا يشترط فيهم أن يبلغوا في الضبط الدرجة المشترطة في رواة الصحيح فإذا جاء الحديث الحسن لذاته من وجه آخر انجبر ما فيه من خفة الضبط فيرتقي بذلك من درجته وهي الدرجة الأولى من قسمي الحسن إلى درجة الصحيح وهي الدرجة الأخيرة منه ويسمى هذا النوع بالصحيح لغيره
وهذا النوع غير داخل في حد الصحيح الذي سبق ذكره ولذا قال بعضهم وأورد على هذا التعريف أن الحسن إذا روي من غير وجه ارتقى من درجة الحسن إلى درجة الصحة وهو غير داخل في هذا الحد وأجاب بان المحدود هو الصحيح لذاته لا لغيره وما أورد من قبيل الثاني
واعترض على ابن الصلاح بأنه اعتنى بالحسن فجعله قسمين أحدهما الحسن لذاته والآخر الحسن لغيره فكان ينبغي ان يعتني بالصحيح وينبه على ان له قسمين

أيضا أحدهما الصحيح لذاته والآخر الصحيح لغيره فإن كان اقتصاره على تعريف الصحيح لذاته في بابه وذكر الصحيح لغيره في نوع الحسن مبنيا على أنه أصله فكان ينبغي أن يقتصر على تعريف الحسن لذاته في بابه ويكر الحسن لغيره في نوع الضعيف لأنه أصله ولا يخفى أن الخطب في هذا الأمر سهل
وقد كثر اعتراض أناس على ابن الصلاح من جهة ترتيب كتابه فإنهم قالوا إنه ليس كما ينبغي وفي هذا الاعتراض نظر فإن كتابه أملاه شيئا بعد شيء قاصدا بذلك أن يجمع في كتابه ما أمكنه جمعه من مسائل هذا الفن التي كانت مفرقة في كتب شتى
فهو أول من جمعه في كتاب واحد حتى صار سهل المنال بعد أن كان لا يحصله إلا أفراد من أرباب الهمم العالية الذين لهم به ولوع شديد حتى لم يمنعهم تفرقة من ان يجمعوه في صدورهم ومثله لا يتيسر له حسن الترتيب لأن ذلك يعوقه عن إتمام الجمع والتأليف وأمر الترتيب بعد ذلك سهل يقدر على القيام به من هو أدنى منه بمراتب وهذا أمر مقرر معروف على أن هؤلاء المعترضين فيهم كثير من أرباب الفضل والنبل فكان حقهم أن يقوموا بهذا الأمر المهم ويكتفوا منه رحمه الله تعالى بقيامه الذي هو أهم
على ان كتابه مرتب في الجملة بحيث إنه ليس فيه تشويش من الاستفادة والإفادة وذلك مع انسجام عبارته ولطف إشارته نعم ذكر أشياء في مواضع ربما كان غيرها أشد مناسبة منها إلا أن ذلك قليل بالنسبة إلى غيره وعلى كل حال فالمعترضون معترفون بفضله وتقدمه في ذلك وكثيرا ما يكون الاعتراض دليلا على علو مقام المعترض عليه أجزل الله لهم جميعا الثواب والأجر وأبقى لهم في العالمين حسن الذكر


الفائدة الثانية
في بيان الكتب التي يهتدي بها إلى معرفة الحديث الحسن قال ابن الصلاح كتاب أبي عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قوله هذا حديث حسن وهذا حديث حسن صحيح ونحو ذلك فينبغي أن تصحح أصلك منه بجماعة أصول وتعتمد على ما اتفقت عليه
ونص الدارقطني في سننه على كثير من ذلك ومن مظانه سنن أبي داود فقد روينا انه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه وروينا عنه أيضا ما معناه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب وقال ما كان في كتابي حديث فيه وهن شديد فقد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض
قلت فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفنا أنه من الحسن عند أبي داود
وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج فيما حققنا ضبط

الحسن به على ما سبق إذ حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ أنه سمع محمد بن سعد البارودي بمصر يقول كان من مذهب أبي عبد الرحمن عن كل من لم يجمع على تركه وقال ابن منده وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال ا هـ
وقد تعقب العلامة أبو الفتح محمد بن سيد الناس اليعمري كلام ابن الصلاح في شأن سنن أبي داود فقال فيما كتبه على الترمذي لم يرسم أبو داود شيئا بالحسن وعمله في ذلك شبيه بعمل مسلم الذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره أنه اجتنب الضعيف الواهي وأتى بالقسمين الأول والثاني وحديث من مثل به من الرواة موجود في كتابه دون القسم الثالث قال فهلا ألزم الشيخ أبو عمرو مسلما من ذلك ما ألزم به أبا داود فمعنى كلامهما واحد
وقول أبي داود وما يشبهه يعني في الصحة وما يقاربه يعني فيها أيضا هو نحو قول مسلم ليس كل الصحيح نجده عند مالك وشعبة وسفيان فاحتاج أن ينزل إلى مثل ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد لما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق وإن تفاوتوا في الحفظ والإتقان ولا فرق بين الطريقين غير أن مسلما شرط الصحيح فتحرج من حديث الطبقة الثالثة يعني الضعيف وأبو داود لم يشترطه فذكر ما يشتد وهنه عنده والتزم البيان عنه

قال وفي قول أبي داود إن بعضها أصح من بعض ما يشير إلى القدر المشترك بينها من الصحة وإن تفاوتت فيه لما تقتضيه صيغة أفعل في الأكثر ا هـ
وقد امتعض أناس من هذه العبارة لإشعارها بأن سنن أبي داود بمنزلة صحيح مسلم فإن كلا منهما ذكر الصحيح وما يشبهه وما يقاربه غير أن مسلما التزم أن لا يذكر الحديث الضعيف في كتابه وأبو داود ذكره مع بيان ضعفه فارتفع المحذور من ذكر الضعيف في كتابه فهما عند إمعان النظر في منزلة واحدة بل ربما عد ذكره الضعيف مع البيان من المزايا التي ربما قضت برجحانه فإن معرفة الضعيف الضعيف من المطالب المهمة وهذا مما لم يخطر في بال أحد من علماء الأثر فالبون بينهما بعيد
على أن في سنن أبي داود كثيرا من الأحاديث التي فيها انقطاع أو إرسال

أو رواية عن مجهول كرجل وشيخ مع انه لم يشر إلى ضعفها وإن أجيب عنه بأنه لم يتعرض لبيان الضعف في هذا النوع لظهوره
وقد نقل بعضهم عن بعض أهل الأثر أنه قال هو تعقب واه جدا لا يساوي سماعه ثم قال وهو كذلك لتضمنه أحد شيئين وقوع غير الصحيح في مسلم أو تصحيح كل ما سكت عليه أبو داود
وقد أجيب عن اعتراض ابن سيد الناس بأن مسلما التزم الصحة في كتابه فليس لنا ان نحكم على حديث خرجه فيه بأنه حسن عنده لما عرف من قصور الحسن عن الصحيح وأبو داود قال إن ما سكت عنه فهو صالح والصالح يجوز أن يكون صحيحا ويجوز أن يكون حسنا فالاحتياط أن يحكم عليه بالحسن
وثم أجوبة أخرى منها ان العلمين إنما تشابها في أن كلا أتى بثلاثة أقسام لكنها في سنن أبي داود راجعة إلى متون الأحاديث وفي مسلم إلى رجاله وليس بين ضعف الرجل وصحة حديثه منافاة
ومنها أن أبا داود قال إن ما كان فيه وهن شديد بينته ففهم أن ثم شيئا فيها وهن غير شديد لم يلتزم بيانه
ومنها أن مسلما إنما يروي عن الطبقة الثالثة في المتابعات لينجبر القصور الذي في رواية من هو في الطبقة الثانية ثم إنه يقل من حديثهم جدا بخلاف أبي داود فإنه يخرج هؤلاء في الأصول مع الإكثار منها والاحتجاج بها فلذلك نزلت درجة كتابه عن درجة كتاب مسلم
وقال العلامة أبو بكر محمد بن رشيد الأندلسي السبتي فيما نقله عنه ابن سيد الناس ليس يلزم من كون الحديث لم ينص عليه أبو داود بضعف ولا نص عليه غيره بصحة أن يكون الحديث عند أبي داود حسنا إذ د يكون عنده صحيحا وإن لم يكن عند غيره كذلك
قال العراقي وقد يجاب عن اعتراض ابن رشيد بأن البن الصلاح إنما ذكر

ما لنا أن نعرف به الحديث عنده والاحتياط أن لا نرتفع به إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها عند أبي داود لأن عبارته فهو صالح أي للاحتجاج به فإن كان أبو داود يرى الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف فالاحتياط ما قاله ابن الصلاح وغن كان رأيه كالمتقدمين في انقسام الحديث إلى صحيح وضعيف فالاحتياط أن يقال صالح كما عبر هو به ا هـ
وقد توهم بعضهم من عبارة الحافظ المنذري الواقعة في خطبة كتاب الترغيب والترهيب أنه ينسب إلى أبي داود تسمية ما سكت عنه حسنا واعترض عليه بأن هذا غير معروف والمعروف عنه تسميته صالحا
وقد نظرنا في عبارته فإذا هي لا تدل على ذلك وهي وانبه على كثير مما حضرني حال الإملاء مما تساهل أبو داود في السكوت عن تضعيفه أو الترمذي في تحسينه أو ابن حبان والحاكم في تصحيحه لا انتقادا عليهم رضي الله عنهم بل مقياسا لمتبصر في نظائرها من هذا الكتاب وكل حديث عزوته إلى أبي داود وسكت عنه فهو كما ذكر أبو داود ولا ينزل عن درجة الحسن وقد يكون على شرط الصحيحين ا هـ
فقوله فهو كما ذكر أبو داود يريد أنه صالح ثم بين أن الصالح لا ينزل عن درجة الحسن وقد يرتفع إلى درجة ما يكون على شرط الشيخين
وكلام أبي داود فيما يتعلق بكتابه مأخوذ من رسالته إلى أهل مكة وقد وقفت على ملخصها فرأيت أن أورد منه شيئا
قال إنكم سألتموني أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب فاعلموا أنه كله كذلك إلا أن يكون قد روي من وجهين

أحدهما أقدم إسنادا والآخر أقوم من الحفظ فربما كتبت ذلك ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث
ولم أكتب في الباب إلا حديثا أو حديثين وإن كان في الباب أحاديث صحاح فإنها تكثر وإنما أردت قرب منفعته فإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه وربما تكون كلمة زائدة على الأحاديث وربما اختصرت الحديث الطويل لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من يسمعه المراد منه ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك
وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي فتكلم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره فإذا لم يكن مسند غير المراسيل فالمرسل يحتج به وليس هو مثل المتصل في القوة
وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء وإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر وليس على نحوه في الباب غيره
وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ومنه ما لا يصح سنده وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض
وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا وهي فيه ولا أعلم شيئا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب ولا يضر رجلا أن لا يكتب من العلم شيئا بعد ما يكتب هذا الكتاب وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره وأما هذه المسائل مسائل الثوري ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولها
ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب من رأي أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ويكتب أيضا مثل جامع سفيان الثوري فإنه أحسن ما وضع للناس من الجوامع

والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس فالحديث المشهور المتصل الصحيح ليس يقدر أن يرده عليك أحد وأما الحديث الغريب فإنه لا يحتج به ولو كان من رواية الثقات من أئمة العلم قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الغريب من الحديث وقال يزيد بن أبي حبيب إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة فإن عرف وإلا فدعه
ولم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام فهذه أربعة آلاف وثمان مئة كلها في الأحكام فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغيرها فلم أخرجها والسلام عليكم ا هـ
وقد اشتهر هذا الكتاب بين الفقهاء اشتهارا عظيما لجمعه أحاديث الحكام قال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن اعلموا رحمكم الله تعالى أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من الناس كافة فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم فلكل منه ورد ومنه شرب وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض
فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد إلا أن كتاب أبي داود أحسن وضعا وأكثر فقها وكتاب أبي عيسى أيضا كتاب حسن والله يغفر لجماعاتهم ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته ا هـ
وحيث عرفت ما قيل في شأن كتب السنن المذكورة تعرف ان الحافظ السلفي قد أفرط في التساهل حيث قال في شأن الكتب الخمسة قد اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب وكيف لا يقال إنه أفرط في التساهل وأبو داود قد صرح بانقسام ما في كتبه إلى صحيح وغيره والترمذي قد ميز في كتابه بين الصحيح والحسن

فإن قيل بأنه ممن يدرج الحسن في الصحيح ولا يفرده بنوع فهو قد جرى في ذلك على اصطلاحه
قيل إن العلماء قد صرحوا بأن فيها ضعيفا أو منكرا أو نحو ذلك على أن من سمى الحسن صحيحا لا ينكر أنه دون الصحيح المقدم ذكره فالفرق بين من يميز بينهما وبين من لا يميز إنما هو اختلاف في العبارة دون المعنى
وقال بعضهم إن إطلاق السلفي لهذه العبارة مع ما في الكتب الثلاثة في السنن من الضعيف بالنظر إلى قلته بالنسبة إلى غيره لا سيما النسائي فإنها أقلها بعد الصحيحين حديثا ضعيفا
وقد أضاف بعضهم إلى الكتب الخمسة كتاب ابن ماجة فجعلها بذلك ست واول من فعل ذلك أبو الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في الأطراف ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال كذا أثبته المؤلف وصوابه الكمال في وهو الكتاب الذي هذبه الحافظ المزي
وقدموا ابن ماجة على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ ولما كان ابن ماجه قد اخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث قال بعضهم ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى منه وقد جعل بعض العلماء كرزين السرقسطي السادس الموطأ وتبعه على ذلك المجد ابن الأثير في كتاب جامع الأصول وكذا غيره
وأما كتب المسانيد فهي دون كتب السنن الرتبة وكتب المسانيد هي ما أفرد فيه حديث كل صحابي على حدة من غير نظر للأبواب وقد جرت عادة مصنفيها أن يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من حديثه صحيحا كان أو سقيما ولذلك لا يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقا
قال الحافظ ابن الصلاح كتب المسانيد غير ملحقة بالكتب الخمسة التي هي

الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما يورد فيها مطلقا كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند أحمد بن حنبل ومسند إسحاق بن راهويه ومسند عبد بن حميد ومسند الدارمي ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البزار أبي بكر وأشباهها
فهذه جرت عادة مؤلفيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثا محتجا به فلهذا تأخرت مرتبتها وإن جلت لجلالة مؤلفيها عن مرتبة الكتب الخمسة وما ألحق بها من الكتب المصنفة على الأبواب والله أعلم ا هـ
وانتقد على ابن الصلاح عده مسند الدارمي في كتب المسانيد لأنه مرتب على الأبواب وإنما سموه بالمسند كما سمى البخاري كتابه بالمسند لكون أحاديثه مسندة وانتقد عليه أيضا تفضيل كتب السنن وما ألحق بها على مسند الإمام أحمد بن حنبل مع انه التزم الصحيح بمسنده
وأجاب العراقي بأنا لا نسلم ذلك والذي رواه عنه أبو موسى المديني أنه سئل عن حديث فقال انظروه فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة فهذا ليس بصريح في أن كل ما فيه حجة بل هو صريح في أن ما ليس فيه ليس بحجة على ان ثم أحاديث مخرجة في الصحيحين وليست فيه
قال وأما وجود الضعيف فيه فهو محقق بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء ولعبد الله ابنه فيه زيادات فيها الضعف والموضوع وقد أورد العلامة ابن الجوزي في كتاب الموضوعات أحاديث من المسند لاحت له فيها سمة الوضع
وقد تصدى الحافظ ابن حجر للرد على ذلك فألف كتابا سماه القول المسدد في الذب عن المسند سرد فيه الأحاديث التي جمعها العراقي وهي تسعة وأضاف إليها خمسة عشر حديثا أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وأجاب عنها

وقال في كتابه تعجيل المنفعة في رجال الأربعة ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة منها حديث عبد لارحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفا قال ويعتذر عنه بأنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك عليه فترك سهوا أو ضرب عليه وكتب من تحت الضرب
وقال بعضهم إن مسند أحمد لا يوازيه كتاب من كتب المسانيد في الكثرة وحسن السياق غير انه فاته أحاديث كثيرة جدا بل قيل إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين وهم نحو مائتين
وجملة ما في المسند من الأحاديث أربعون ألفا تكرر منها عشرة آلاف فيبقى ثلاثون ألفا وقال العلامة عبد الرحمن المعروف بأبي شامة في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث قال أبو الخطاب وأصحاب الإمام أحمد يحتجون بالأحاديث التي رواها في مسنده وأكثرها لا يحل الاحتجاج بها وإنما أخرجها الإمام أحمد حتى يعرف من أين الحديث مخرجه والمنفرد به أعدل أو مجروح ولا يحل الآن لمسلم عالم أن لا يذكر إلا ما صح لئلا يشقى في الدارين لما صح عن سيد الثقلين انه قال من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين قال ويلزم المحدث أن يكون على الصفة التي ذكرناها في أول كتابنا من الحفظ والإتقان والمعرفة بما يتعلق بهذا الشأن
وقال العلامة ابن تيمية في كتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ليس كل ما رواه أحمد في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده وإن

كان في ذلك ما هو ضعيف وشرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه وأما كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحا أو ضعيفا فإنه لم يقصد أن لا يروي في ذلك إلا ما ثبت عنده
ثم زاد ابن أحمد زيادات وزاد أبو بكر القطيعي زيادات وفي زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة فظن ذلك الجاهل ان تلك من رواية أحمد وانه رواها في المسند وهذا خطأ قبيح فإن الشيوخ المذكورين شيوخ القطيعي وكلهم متأخرون عن احمد وهم ممن يروي عن أحمد لا ممن يروي أحمد عنه
وهذا مسند أحمد وكتاب الزهد له وكتاب الناسخ والمنسوخ وكتاب التفسير وغير ذلك من كتبه يقول فيها حدثنا وكيع حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الرزاق فهذا أحمد وتارة يقول حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا علي ين الجعد حدثنا أبو نصر التمار فهذا عبد الله
وكتابه في فضائل الصحابة له فيه هذا وهذا وفيه من زيادات القطيعي يقول حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي وأمثاله ممن هو مثل عبد الله بن احمد في الطبقة وهو ممن غايته أن يروي عن أحمد فإن أحمد ترك الرواية في آخر عمره لما طلب الخليفة أن يحدثه ويحدث ابنه ويقيم عنده فخاف على نفسه من فتنة الدنيا فامتنع من التحديث مطلقا ليسلم من ذلك لأنه قد حدث بما كان عنده قبل ذلك
قال بعض الناظرين فيه الحق أن في المسند أحاديث كثيرة ضعيفة وقد بلغ بعضها في الضعف إلى أن أدخلت في الموضوعات ومع ذلك فهو احسن انتقاء وتحريرا من الكتب التي لم تلتزم الصحة فيها وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي عليهما
وعلى كل حال فسبيل من أراد الاحتجاج بحديث من كتب السنن لا سيما كتاب ابن ماجه ومصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق واحد إذ جميع الجامعين

لذلك لم يلتزموا أن لا يخرجوا عن الصحيح والحسن وعلى ذلك ينظر
فإن كان مريد الاحتجاج بحديث منها متأهلا لتمييز الصحيح من غيره فعليه أن ينظر في اتصال إسناد الحديث وحال رواته ثم يحكم على الإسناد بما أداه إليه البحث والنظر فيقول هذا حديث صحيح الإسناد أو حسنه أو ضعيفه
ومع ذلك يسوغ له الاحتجاج به إذا كان صحيح الإسناد أو حسنه حتى يتيقن سلامته من الشذوذ والعلة إذ صحة الإسناد أو حسنه لا تقتضي صحة المتن أو حسنه فإذا تبينت له سلامته من الشذوذ والعلة ساغ له الاحتجاج به
قال ابن الصلاح مبينا أن صحة الإسناد أو حسنه لا تقتضي صحة الحديث أو حسنه قولهم هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد دون قولهم هذا حديث صحيح أو حديث حسن لأنه قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح لكونه شاذا أو معللا غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه لأن عدم العلة والقادح هو لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر ا هـ
وقد تعقب الحافظ ابن حجر عبارته الأخيرة فقال الذي لا أشك فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله صحيح إلى قوله صحيح الإسناد إلا لأمر ما
وإن كان مريد الاحتجاج بحديث منها غير متأهل لتمييز الصحيح من غيره فسبيله أن يبحث عن حال ذلك في كلام الأئمة فإن وجد أحدا منهم صححه أو حسنه فله أن يقلده وغن لم يجد ذلك فليس له أن يقدم عل الاحتجاج به إذ في الاحتجاج به خطر عظيم
هذا وما ذكرناه من ان كان متأهلا لتمييز الصحيح من غيره فله أن يحكم على الحديث بمقتضى ما أداه إليه البحث والنظر هو مبني على مذهب الجمهور الذين قالوا إن المتميزين تمام التمييز يمكن أن يوجدوا في كل زمان وإذا وجدوا ساغ لهم أن يحكموا على الحديث بما يتبين لهم من حاله

وقد خالفهم ابن الصلاح في ذلك فقال إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان
فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرته من التغيير والتحريف وصار معظم المقصود بما يتداول من الأسانيد خارجا عن ذلك إبقاء لسلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة زادها الله شرفا ا هـ
وقد خالف الجمهور ابن الصلاح فقالوا إن ذلك ممكن لمن تمكن في هذا الفن وقويت معرفته بالطرق الموصلة إلى ذلك وعليه جرى العمل فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم يكن لمن تقدمهم فيها تصحيح فمن المعاصرين لابن الصلاح أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن القطان صاحب كتاب الوهم والإيهام والحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي صاحب المختارة وهو كتاب التزم فيه ذكر الصحيح وقد ذكر فها أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها والحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري ومن الطبقة التي تلي هذه الطبقة الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي وجرى على ذلك أناس بعده
قال الحافظ ابن حجر قد اعترض على ابن الصلاح كل من اختصر كلامه وكلهم دفع في صدر كلامه من غير إقامة دليل ولا بيان تعليل ومنهم من احتج

بمخالفة أهل عصره ومن بعده له في ذلك كابن القطان والضياء المقدسي والزكي المنذري ومن بعدهم كابن المواق والدمياطي والمزي ونحوهم وليس بوارد لأنه لا حجة على ابن الصلاح بعمل غيره وإنما يحتج عليه بإبطال دليله أو معارضته بما هو أقوى منه ومنهم من قال لا سلف له في ذلك ولعله بناه على جواز خلو العصر من المجتهد وهذا إذا انضم إلى ما قبله من أنه لا سلف له فيما ادعاه وعمل أهل عصره ومن بعدهم على خلاف ما قال انتهض دليلا للرد عليه
قال ثم إن في عبارته مناقشات
منها قوله فإنا لا نتجاسر فظاهره أن الأولى ترك التعرض له لما فيه من التعب والمشقة وإن لم ينهض إلى درجة التعذر فلا يحسن بعد ذلك قوله فقد تعذر
ومنها أنه ذكر مع الضبط الحفظ والإتقان وهي ليست متغايرة
ومنها أنه يفهم من قوله بعد ذلك أنه يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه والمعروف عن أئمة الحديث خلاف ذلك وحينئذ فإذا كان الراوي عدلا لكن لا يحفظ ما سمعه عن ظهر قلب واعتمد ما في كتابه فحدث منه فقد فعل اللازم فحديثه على هذه الصورة صحيح
قال وفي الجملة ما استدل به ابن الصلاح من كون الأسانيد ما منها إلا وفيه من لم يبلغ درجة الضبط المشترطة في الصحيح إن أراد أن جميع الإسناد كذلك فممنوع لأن من جملته من يكون من رجال الصحيح وقلما يخلو إسناد من ذلك وإن أراد أن بعض الإسناد كذلك فمسلم لكن لا ينهض دليلا على التعذر إلا في جزء ينفرد بروايته من وصف بذلك أما الكتاب المشهور الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه كالمسانيد والسنن مما لا يحتاج في صحة نسبتها إلى مؤلفيها إلى اعتبار إسناد معين فإن المصنف منهم إذا روى حديثا ووجدت الشرائط مجموعة ولم يطلع المحدث المتقن المضطلع فيه على علة لم يمتنع الحكم بصحته ولو لم ينص عليها أحد من المتقدمين

قال ثم ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته ولا سيما إن كان ذلك المتقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن كابن خزيمة وابن حبان
قال والعجب منه كيف يدعي تعميم الخلل في جميع الأسانيد المتأخرة ثم يقبل تصحيح المتقدم وذلك التصحيح إنما يصل إلى المتأخر بالإسناد الذي يدعي فيه الخلل فإن كان ذلك الخلل مانعا من الحكم بصحة الإسناد فهو مانع من الحكم بقبول ذلك التصحيح وإن كان لا يؤثر في الإسناد المعين الذي يتصل به رواية ذلك الكتاب إلى مؤلفه وينحصر النظر في مثل أسانيد ذلك المصنف في المصنف فصاعدا
لكن قد يقوى ما ذهب إليه ابن الصلاح بوجه آخر وهو ضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين
وقيل إن الحامل لابن الصلاح على ذلك أن المستدرك للحاكم كتاب كبير جدا يصفو له من تصحيح كثير وهو مع حرصه على جمع الصحيح غزير الحفظ كثير الاطلاع واسع الرواية فيبعد كل البعد أن يوجد حديث بشرائط الصحة لم يخرجه وهذا قد يقبل لكنه لا ينهض دليلا على التعذر ا هـ
وقال بعضهم إن ما ذكره ابن الصلاح من وقوع الخلل في الأسانيد المتأخرة لا ينتج مدعاه لا سيما في الكتب المشهورة التي استغنت بشهرتها عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفيها ككتاب النسائي مثلا فإنه لا يحتاج في صحة نسبته إلى النسائي إلى اعتبار حال الإسناد منا إليه كما اقتضاه كلامه فإذا روى مصنفه حديثا ولم يعلله وجمع إسناده شروط الصحة ولم يطلع المحدث فيه على علة فما المانع من الحكم

بصحته ولو لم ينص عليها أحد من المتقدمين لا سيما وأكثر ما يوجد من هذا القبيل مما رواته رواة الصحيح وفيهم الضابطون المتقنون الحفاظ
ويظهر أن هذا لا ينازع فيه من إلمام بهذا الشأن غير أنه ربما يقال إن ابن الصلاح رأى حسم هذا الباب لئلا يدخل منه بعض المموهين الذي لا يميزون بين الصحيح والسقيم وهم مع ذلك يدعون أنهم من الجهابذة في هذا الفن وكثيرا ما راج أمرهم بين الجمهور فرأى سد هذا الباب أقل خطرا
وكما سد ابن الصلاح باب التصحيح والتحسين كذلك سد باب التضعيف قال في مبحث الضعيف إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف فلك أن تقول هذا ضعيف وتعني أنه بذلك الإسناد ضعيف وليس لك أن تقول هذا ضعيف وتعني به ضعف متن الحديث بناء على مجرد ضعف ذلك الإسناد فقد يكون كرويا بإسناد آخر صحيح يثبت بمثله الحديث بل يتوقف جواز ذلك على حكم إمام من أئمة الحديث بأنه لم يرو بإسناد يثبت به أو بأنه حديث ضعيف او نحو هذا مفسرا وجه القدح فيه فإن أطلق ولم يفسر ففيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى فاعلم ذلك فإنه مما يغلط فيه ا هـ
والكلام الذي أشار إلى أنه سيأتي هو ما ذكره في النوع الثالث والعشرين المعقود لمعرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته وهو
قلت ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب الذي صنفها أئمة الحديث في الجرح الذي صنفها أئمة الحديث في الجرح التعديل وقلما يتعرضون فيها لبيان السبب بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف وفلان ليس بشيء أو نحو ذلك أو هذا حديث ضعيف وهذا حديث غير ثابت ونحو ذلك فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر
وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف ثم من انزاحت عنه الريبة يبحث عن حاله فإن

أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه خلص حسن ا هـ
والظاهر أن ابن الصلاح وغن سد الباب سدا محكما من جهة فقد فتح خوخة من جهة أخرى فإنه قال في مستدرك الحاكم بعد أن ذكر تساهل صاحبه في أمر التصحيح فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به إلا أن تظهر علة توجب ضعفه ويقاربه في حكمه صحيح ابن حبان لابستي ا هـ
فإن قوله إلا أن تظهر علة توجب ضعفه يشمل ما إذا كانت العلة مما ظهر للمتأخر بسبب البحث والنظر ولو لم يذكرها أحد من المتقدمين ويظهر أن أمر التضعيف أقرب مأخذا من أمر التصحيح والتحسين
قال الحافظ السيوطي في التقريب بعد أن ذكر ابن الصلاح كما منع المتأخرين من الحكم بصحة الحديث او حسنه منعهم فيما سيأتي آخر يثبت بمثله الحديث
فالحاصل أن ابن الصلاح سد باب التصحيح والتحسين والتضعيف على أهل هذه الأزمان لضعف أهليتهم وإن لم يوافق الأول ولا شك أن الحكم بالوضع أولى بالمنع قطعا لا حيث لا يخفى كالأحاديث الطوال الركيكة التي وضعها القصاص أو ما فيه مخالفة للعقل أو الإجماع
وأما الحكم للحديث بالتواتر أو الشهرة فلا يمتنع إذا وجدت الطرق المعتبرة في ذلك وينبغي التوقف عن الحكم بالفردية والغرابة وعن العزة أكثر ا هـ
وقد أشكل العصر الذي يبتدئ فيه امتناع التصحيح وغيره عند ابن الصلاح فإن في قوله فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد الأسانيد إبهام والظاهر أن الابتداء يكون مما بعد عصر آخر من ألف في

الصحيح وكان بارعا في تمييزه من غيره
الفائدة الثالثة في معنى قول الترمذي هذا حديث حسن صحيح ونحو ذلك
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في تعليقه على جامع الترمذي الذي سماه قوت المغتذي قال ابن الصلاح قول الترمذي وغيره هذا حديث حسن صحيح فيه إشكال لن الحسن قاصر عن الصحيح ففي الجمع بينهما في حديث واحد جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته
قال وجوابه أن ذلك راجع إلى الإسناد فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح استقام أن يقال فيه إنه حديث حسن صحيح أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر
على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من قال ذلك أراد بالحسن معناه اللغوي وهو ما تميل إليه النفس ولا يأباه العقل دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده انتهى
وقال ابن دقيق في الاقتراح يرد على الجواب الأول الأحاديث التي قيل فيها حسن صحيح مع انه ليس لها إلا مخرج واحد قال وفي كلام الترمذي في مواضع يقول هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه قال والذي أقول في جواب هذا السؤال إنه لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح وإنما يجيئه القصور ويفهم ذلك إذا اقتصر على قوله حسن فالقصور يأتيه من قبل الاقتصار لا من حيث حقيقته وذاته
وشرح ذلك وبيانه أنه ها هنا صفات تقتضي قبول الرواية ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان مثلا فوجود

الدرجة الدنيا كالصدق وعدم التهمة بالكذب لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه كالحفظ مع الصدق فيصح ان يقال في هذا إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلا صحيح باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسنا ويلتزم ذلك ويؤيده ورود قولهم هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة وهذا موجود في كلام المتقدمين انتهى
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير أصل هذا السؤال غير متجه لأن الجمع بين الحسن والصحة في حديث واحد رتبة متوسطة بين الصحيح والحسن قال فهنا ثلاث مراتب الصحيح أعلاها والحسن أدناها والثالثة ما تتشرب من كل منهما فإن كل ما كان فيه شبه لم يتمخض لأحدهما اختص برتبة مفردة كقولهم للمز وهو ما فيه حلاوة وحموضة هذا حلو حامض أي مز
قال فعلى هذا يكون ما يقول فيه حسن صحيح أعلى رتبه عنده من الحسن ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن
قال الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على ابن الصلاح وهذا الذي قاله ابن كثير تحكم لا دليل عليه وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي
قال الإمام بدر الدين الزركشي والحافظ أبو الفضل بن حجر كلاهما في النكت على ابن الصلاح هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به وعبارة الزركشي وهو خرق لإجماعهم ثم إنه يلزم عليه أن لا يكون في كتاب الترمذي حديث صحيح إلا قليلا لقلة اقتصاره على قوله هذا صحيح مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين
وقال الشيخ سراج الدين البلقيني في محاسن الاصطلاح أيضا في هذا

الجواب نظر لكن جزم الإمام شمس الدين الجزري في الهداية فقال والذي قال صحيح حسن فالترمذي يعني يشاب صحة وحسنا فهو إذن دون الصحيح معنى
وقال الزركشي فإن قلت فما عندك في رفع هذا الإشكال قلت يحتمل أن يريد بقوله حسن صحيح في هذه الصورة الخاصة الترادف واستعمال هذا قليلا دليل على جوازه كما استعمله بعضهم حيث وصف الحسن بالصحة على قول من أدرج الحسن في القسم الصحيح ويجوز أن يريد حقيقتهما بالصحة على قول من أدرج الحسن في القسم الصحيح ويجوز أن يريد حقيقتهما في إسناد واحد باعتبار حالين وزمانين فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستورا أو مشهورا بالصدق والأمانة ثم ترقي ذلك الرجل المسمع وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه الترمذي أو غيره مرة أخرى فأخبر بالوصفين وقد روي عن غير واحد انه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة قال وهذا الاحتمال وغن كان بعيدا فهو أشبه ما يقال
قال ويحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه وأدى اجتهاد غيره إلى صحته أو بالعكس فبان أن الحديث في أعلى درجات الحسن واول درجات الصحيح فجمع بينهما باعتبار مذهبين وأنت إذا تأملت تصرف الترمذي لعلك تسكن إلى قصده هذا انتهى كلام الزركشي وبعضه مأخوذ من الجعبري حيث قال في مختصره وقوله حسن صحيح باعتبار سندين أو مذهبين

وقال الحافظ ابن حجر في النكت قد أجاب بعض المتأخرين عن أصل الإشكال بأنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحا عند قوم وحسنا عند قوم يقال لك فيه

قال ويتعقب هذا بأنه لو أراد ذلك لأتى بالواو بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة التي للجمع فيقول حسن وصحيح
قال ثم إن الذي يتبادر إليه الفهم أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى غيره فهذا يقدح في الجواب ويتوقف أيضا على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين فإن كان في بعضها ما لا اختلاف عند جميعهم في صحتها قدح في الجواب أيضا لكن لو سلم هذا الجواب لكان أقرب إلى مراده من غيره
قال وإني لأميل إليه وأرتضيه والجواب عما يرد عليه ممكن
قال وقيل يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وفين مختلفين وهما الإسناد والحكم فيجوز أن يكون قوله حسن أي باعتبار إسناده صحيح أي باعتبار حكمه لأنه من قبيل المقبول وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة وهذا يمشي على قول من يفرد الحسن من الصحيح بل يسمي الكل صحيحا لكن يرد عليه ما أوردناه أولا من أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد
قال وأجاب بعض المتأخرين بأنه أراد حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة راويه عن درجة الصحة المصطلحة صحيح على طريقة من لا يفرق بينهما

قال ويرد عليه ما أوردناه فيما سبق
قال واختار بعض من أدركناه أن اللفظين عنده مترافان ويكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الول على سبيل التأكيد له كما يقال صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك
قال وهذا قد يقدح فيه القاعدة فإن الحمل على التأسيس خير من الحمل على التأكيد لأن الأصل عدم التأكيد لكن قد يندفع القدح بوجود القرينة الدالة على ذلك وقد وجدنا في عبارة غير واحد كالدارقطني هذا حديث صحيح ثابت
قال وفي الجملة أقوى الأجوبة ما أجاب به بان دقيق العيد انتهى كلام الحافظ ابن حجر في النكت
قال في شرح النخبة إذا اجتمع الصحيح والحسن في وصف واحد فالتردد الحاصل من المجتهد في الناقل هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها وهذا حديث يحصل منه التفرد بتلك الرواية
قال ومحصل الجواب أن تردد أئمة الحديث في ناقليه اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين فيقال فيه حسن باعتبار وصفه عند قوم صحيح باعتبار وصفه عند قوم وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد لأنه حقه أن يقول حسن أو صحيح وهذا كما حذف حرف العطف من الذي بعده
وعلى هذا ما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح لأن الجزم أقوى من التردد وهذا من حيث التفرد وإلا فإذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معا على الحديث يكون باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح فقط إذا كان فردا لأن كثرة الطرق تقوي

فإن قيل قد صرح الترمذي بأن شرط الحسن أن يروى من غير وجه فكيف يقول في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
فالجواب أن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقا وغنما عرف بنوع خاص وقع في كتابه وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى وذ لك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب وفي بعضها حسن صحيح وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب وفي بعضها حسن صحيح غريب
وتعريفه إنما وقع على الأول فقط وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في أواخر كتابه وما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا فكل حديث روي لا يكون راويه متهما بكذب ويروى من غير وجه نحو ذلك ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن
يعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط أما ما يقول فيه حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريفه كما لم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط وكأنه ترك ذلك استغناء بشهرته عند أهل الفن واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط إما لغموضه وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيد بقوله عندنا ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي وبهذا التقرير يندفع كثير من الإيرادات التي طال البحث فيها ولم يسفر وجه توجيهها فلله الحمد على ما ألهم وعلم
قلت وظهر لي توجيهان آخران أحدهما أن المراد حسن لذاته صحيح لغيره والآخر أن المراد حسن باعتبار إسناده صحيح أي أنه أصح شيء ورد في الباب فإنه يقال أصح ما ورد كذا وإن كان حسنا او ضعيفا فالمراد أرجحه أو أقله ضعفا

ثم إن الترمذي لم ينفرد بهذا المصطلح بل سبقه إليه شيخه البخاري كما نقله ابن الصلاح في غير مختصره والزركشي وابن حجر في نكتهما
قال الزركشي واعلم أن هذا السؤال يرد بعينه في قول الترمذي هذا حديث حسن غريب لأن من شرط الحسن أن يكون معروفا من غير وجه والغريب ما انفرد به أحد رواته وبينهما تناف
قال وجوابه ان الغريب يطبق على أقسام غريب من جهة المتن وغريب من جهة الإسناد والمراد هنا الثاني دون الأول لأن هذا الغريب معروف عن جماعة من الصحابة لكن تفرد بعضهم بروايته عن صحابي فبحسب المتن حسن وبحسب الإسناد غريب لأنه لم يروه من تلك الجماعة إلا واحد ولا منافاة بين الغريب بهذا المعنى وبين الحسن بخلاف سائر الغرائب فإنها تنافي الحسن انتهى ما نقل من قوت المغتذي
وقد سئل العلامة تقي الدين بن تيمية عن هذه المسألة وما يتعلق بها فقال الجواب أما الغريب فهو الذي لا يعرف إلا من طريق واحد ثم قد يكون صحيحا كحديث الأعمال بالنيات ونهيه عن بيع الولاء وهبته وحديث أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر فهذه صحاح في البخاري ومسلم وهي غريبة عن أهل الحديث
فالأول إنما ثبت عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب
والثاني إنما يعرف من حديث عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر والثالث إنما يعرف من رواية مالك عن الزهري عن أنس ولكن أكثر الغرائب ضعيفة
وأما الحسن في اصطلاح الترمذي فهو ما روي من وجهين وليس في رواته من هو متهم بالكذب ولا هو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فهذه الشروط هي التي شرطها الترمذي في الحسن
لكم من الناس من يقول قد يسمي حسنا ما ليس كذلك مثل حديث يقول فيه حسن غريب فإنه لم يرو إلا من وجه واحد وقد سماه حسنا

وقد أجيب عنه بأنه قد يكون غريبا لم يرو إلا عن تابعي واحد لكن روي عنه من وجهين فصار حسنا لتعدد طرقه عن ذلك الشخص وهو في أصله غريب
وكذلك الصحيح الحسن الغريب قد يكون مرويا بإسناد صحيح غريب ثم روي عن الراوي الأعلى بطريق صحيح وطريق آخر فيصير بذلك حسنا مع أنه صحيح غريب لأن الحسن ما تعددت طرقه وليس فيها متهم فإن كان صحيحا من الطريقين فهذا صحيح محض وإن كان أحد الطريقين لم يعلم صحته فهذا حسن
وقد يكون غريب الإسناد فلا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه وهو حسن المتن لأن المتن روي من وجهين ولهذا يقول وفي الباب عن فلان وفلان فيكون لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن وإن كان إسناده غريبا وإذا قال مع ذلك إنه صحيح فيكون قد ثبت من طريق صحيح وروي من طريق حسن فاجتمع فيه الصحة والحسن ويكون غريبا من ذلك الوجه لا يعرف من ذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه وغن كان صحيحا من ذلك الوجه فقد يكون صحيحا غريبا وهذا لا شبهة فيه وإنما الشبهة في اجتماع الحسن والغربة وقد تقدم أنه قد يكون غريبا ثم يصير حسنا فيكون حسنا غريبا كما ذكر من المعنيين وفي هذا القدر كفاية لأولي الجد والعناية وهنا تم الكلام في المبحث الثاني في الحديث الحسن وبينما كنا نريد أن نشرع في المبحث الثالث في الحديث الضعيف وقفنا على كتاب معرفة علوم الحديث للحافظ الجل المجمع على صدقه وإمامته في هذا الفن أبي عبد الله محمد بن عبد الله الضبي المعروف بالحاكم فوجدنا فيه فوائد مهمة رائقة ينبغي لطالبي هذا الفن الوقوف عليها فرأينا أن نورد من كل مبحث من مباحثه شيئا مما ذكر فيه حتى يكون المطالع لذلك كأنه مشرف عليه

قال الحاكم أبو عبد الله بن عبد الله الحافظ النيسابوري
الحمد لله ذي المن والإحسان والقدرة والسلطان الذي أنشأ الخلق بربوبيته وجنسهم بمشيئته واصطفى منهم طائفة أصفياء وجعلهم بررة أتقياء فهم خواص عباده وأوتاد بلاده يصرف عنهم البلايا ويخصهم بالخيرات والعطايا فهم القائمون بإظهار دينه والمتمسكون بسنن نبيه فله الحمد على ما قدر وقضى
وأشهد أن لا إله إلا الله زجر عن اتخاذ الأولياء دون كتابه واتباع الخلق دون نبيه وأشهد أن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى بلغ عنه رسالته فصلى الله عليه آمرا وناهيا ومبيحا وزاجرا وعلى آله الطيبين
قال الحاكم أما بعد فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت ومعرفة الناس بأصول السنن قلت مع إمعانهم في كتابه الأخبار وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل على ذكر أنواع علم الحديث مما يحتاج إليه طلبه الأخبار المواظبون على كتابه الآثار وأعتمد في ذلك

سلوك الاختصار دون الإطناب في الإكثار والله الموفق لما قصدته والمان في بيان ما أردته إنه جواد كريم رؤوف رحيم حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يزال ناس من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة
سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الآدمي يقول سمعت موسى بن هارون يقول سمعت أحد بن حنبل وسئل عن معنى هذا الحديث فقال إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم
قال أبو عبد الله وفي مثل هذا قيل من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحق فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث
ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين واتبعوا آثار السلف من الماضين ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين
سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى يقول سمعت أبا نصر أحمد بن سلام الفقيه يقول ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد
قال أبو عبد الله وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة ويسميها الحشوية


ذكر أول نوع من أنواع علوم الحديث النوع الأول من هذه العلوم معرفة عالي الإسناد قال أبو عبد الله هذا جابر بن عبد الله على كثرة حديثه وملازمته رحل إلى من هو مثله أو دونه مسافة بعيدة في طلب حديث واحد
والعالية من الأسانيد ليس على ما يتوهمه عوام الناس يعدون الأسانيد فما وجدوا منها أقرب عددا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوهمونه أعلى
والعالية من الأسانيد التي تعرف بالفهم لا بعد الرجال غير هذا فرب إسناد يزيد عدده على السبعة والثمانية إلى العشرة وهو أعلى مما ينقص عن ذلك

ومثاله
ما حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث وكذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر
هذا إسناد صحيح مخرج في كتاب مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه وقد بلغ عدد رواته سبعة وهو أعلى من الأربع الذي قدمنا ذكره فإن الغرض فيه القرب من سليمان بن مهران الأعمش فإن الحديث له وهو إمام من أئمة الحديث وكذلك كل إسناد يقرب من الإمام المذكور فيه فإذا صحت الرواية إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير فإنه عالي
حدثنا علي بن الفضل حدثنا الحسن بن عرفة العبدي حدثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مطل الغني ظلم
وهذا أعلى ما يقع لأقراننا من الأسانيد وفي إسناده سبعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وغنما صار عاليا لقربه من هشيم بن بشير وهو أحد الأئمة
وكذلك كل إسناد يقرب من عبد الملك بن جريج وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري وشعبة بن الحجاج وزهير بن معاوية وحماد بن زيد وغيرهم من أئمة الحديث فإنه عالي وإن زاد

في عدده بعد ذكر الإمام الذي جعلناه مثالا فهذه علامة الإسناد العالي
ذكر النوع الثاني من أنواع علوم الحديث النوع الثاني في معرف الحديث العلم بالنازل من إسناد ولعل قائلا يقول النزول ضد العلو فمن عرف العلو فقد عرف ضده وليس كذلك فإن للنزول مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة فمنها ما تؤدي الضرورة إلى سماعه نازلا ومنها ما يحتاج طالب العلم لى معرفة وتبحر فيه فلا يكتب النازل وهو موجود بإسناد أعلى منه
ذكر النوع الثالث من أنواع الحديث النوع الثالث من هذا العلم معرفة صدق المحدث وإتقانه وثبته وصحة أصوله وما يتحمله سنه ورحلته من الأسانيد وغير ذلك من غفلته وتهاونه بنفسه وعلمه وأصوله
حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ حدثنا إبراهيم بن عبد الله السعدي حدثنا معاوية بت هشام حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحدثنا أصحابنا وكنا مشتغلين في رعاية الإبل وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسمعونه من أقرانهم وممن هو أحفظ منهم وكانوا يشددون على من كانوا يسمعون منه
وكان جماعة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ثم من أئمة المسلمين يبحثون وينقرون عن الحديث إلى أن يصح لهم

ومما يحتاج إليه طالب الحديث في زماننا أن يبحث عن أحوال المحدث أولا هل يعتقد الشريعة في التوحيد وهل يلزم نفسه طاعة الأنبياء والرسل فيما أوحي إليهم ووضعوا من الشرع
ثم يتأمل هل هو صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه فإن الداعي إلى البدعة لا يكتب عنه ولا كرامة لإجماع جماعة من أئمة المسلمين على تركه
ثم يتعرف سنه هل يحتمل سماعه عن شيوخه الذين يحدث عنهم فقد رأينا من المشايخ جماعة أخبرونا بسن يقصر عن لقي شيوخ حدثوا عنهم
ثم يتأمل أصوله أعتيقة هي أم جديدة فقد نبغ في عصرنا هذا جماعة يشترون الكتب فيحدثون بها وجماعة يكتبون سماعاتهم بخطوطهم في كتب عتيقة في الوقت فيحدثون بها فمن يسمع منهم من غير أهل الصنعة فمعذور بجهله فأما أهل الصنعة إذا سمعوا من أمثال هؤلاء بعد الخبرة ففيه جرحهم وإسقاطهم إلى أن تظهر توبتهم على ان الجاهل بالصنعة لا يعذر فإنه يلزمه السؤال عما لا يعرفه وعلى ذلك كان السلف
ذكر الوع الرابع من معرفة علوم الحديث النوع الرابع من هذا العلم معرفة المسانيد من الأحاديث وهذا علم كبير من هذه الأنواع لاختلاف أئمة المسلمين في الاحتجاج بغير المسند والمسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه ليس بجهله وكذلك سماع شيخه من شيخه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم إن للمسند شرائط غير ما ذكرنا منها أن يكون موقوفا ولا مرسلا

ولا معضلا ولا في روايته مدلس فهذه الأنواع يجيء شرحها بعد هذا فإن معرفة كل نوع منها علم على الانفراد
وم شرائط المسند أن لا يكون في إسناده أخبرت عن فلان ولا رفعه فلان ولا أظنه مرفوعا وغير ذلك مما يفسد به ونحن مع هذه الشرائط أيضا لا نحكم لهذا الحديث بالصحة فإن الصحيح من الحديث له شرط نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
ذكر النوع الخامس من هذه العلوم النوع الخامس منه معرفة الموقوفات من الروايات إن الموقوف على الصحابة قلما يخفى على أهل العلم ومن الموقوف الذي يستدل به على أحاديث كثيرة ما حدثناه أحمد بن كامل القاضي حدثنا يزيد بن الهيثم حدثنا محمد بن جعفر الفيدي حدثنا ابن فضيل عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة في قول الله ( لواحة للبشر ) قال تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحما على عظم إلا وضعته على العراقيب وأشباه هذا من الموقوفات يعد في تفسير الصحابة
فأما ما نقول في تفسير الصحابي إنه مسند فإنما نقوله في غير هذا النوع وذلك فيما إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند
ومما يلزم طالب الحديث معرفته نوع من الموقوفات وهي مرسلة قبل الوصول إلى الصحابة
ومما يلزم طالب الحديث معرفته نوع آخر من الموقوفات وهي مسندة في

الأصل يقصر به بعض الرواة فلا يسنده مثال ذلك ما حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم حدثنا منصور عن ربعي بن حراش عن أبي مسعود قال إن ما حفظ الناس من آخر النبوة إذا لم تستحي فاصنع ما شئت
هذا حديث أسنده الثوري وشعبة وغيرهما عن منصور وقد قصر به روح بن القاسم فوقفه
ومثال هذا في الحديث كثير ولا يعلم سندها إلا الفرسان من حفاظ الحديث ولا يعد في الموقوفات
ذكر النوع السادس من معرفة علوم الحديث النوع السادس من هذا العلم معرفة الأسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذلك ما حدثناه أبو نصر محمد بن محمد بن حامد حدثنا محمد بن حبان الصنعاني حدثنا عمرو بن عبد الغفار

الصنعاني حدثنا بشر بن السري حدثنا زائدة عن عمار بن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كنا نتمضمض من اللبن ولا نتوضأ منه
هذا باب كبير يطول ذكره بالأسانيد فمن ذلك ما ذكرنا ومن ذلك قول الصحابي المعروف بالصحبة أمرنا أن نفعل كذا ونهينا عن كذا وكذا وكنا نؤمر بكذا وكنا ننهي عن كذا وكنا نفعل كذا وكنا نقول ورسول الله صلى الله عليه و سلم فينا وكنا لا نرى بأسا كذا وكان يقال كذا وكذا وقول الصحابي من السنة كذا وأشباه ما ذكرناه إذا قاله الصحابي المعروف بالصحبة فهو حديث مسند وكل ذلك مخرج في المسانيد
ذكر النوع السابع من أنواع علوم الحديث النوع السابع من هذا العلم معرفة الصحابة على مراتبهم وقد قسمهم إلى اثنتي عشرة طبقة والطبقة الثانية عشرة منهم صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح أو في حجة الوداع أو في غيرهما
ثم قال ومن تبحر في معرفة الصحابة فهو حافظ كامل الحفظ فقد رأيت جماعة من مشايخنا يروون الحديث المرسل عن تابعي عن رسول اله صلى الله عليه و سلم فيتوهمونه صحابيا وربما رووا المسند عن صحابي فيتوهمونه تابعيا
ذكر النوع الثامن من علوم الحديث النوع الثامن من هذا العلم معرفة المراسيل المختلف في الاحتجاج بها وهذا نوع من علم الحديث صعب قلما يهتدي إليه إلا المتبحر في هذا العلم فإن مشايخ

الحديث لم يختلفوا أن الحديث المرسل هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي فيقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
واكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة عن سعيد بن المسيب ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال ومن أهل الشام عن مكحول الدمشقي ومن أهل البصرة عن الحسن بن أبي الحسن ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن يزيد النخعي وقد يروى الحديث بعد الحديث عن غيرهم من التابعين إلا أن الغلبة لرواياتهم
وأصحها مراسيل سعيد بن المسيب وهو فقيه أهل الحجاز ومقدمهم وأول الفقهاء السبعة الذين يعد مالك بن أنس إجماعهم إجماع كافة الناس
واما مشايخ أهل الكوفة فإن عندهم أن كل حديث أرسله أحد من التابعين أو أتباع التابعين أو من بعدهم من العلماء فإنه يقال له مرسل وهو محتج به وليس الأمر كذلك عندنا فإن مرسل أتباع التابعين عندنا معضل
قال يزيد بن هارون لحماد بن زيد يا أبا إسماعيل هل ذكر الله أصحاب الحديث في القرآن فقال بلى ألم تسمع إلى قول الله تعالى ( ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) فهذا فيمن رحل في طلب العلم ثم رجع به إلى من وراءه ليعلمهم إياه
ففي هذا النص دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع غير المرسل هذا من الكتاب واما من السنة فالحديث المشهور المستفيض وهو قوله صلى الله عليه و سلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها


ذكر النوع التاسع من معرفة علوم الحديث النوع التاسع من هذا العلم معرفة المنقطع من الحديث وهو غير المرسل وقلما يوجد في الحفاظ من يميز بينهما والمنقطع على أنواع ثلاثة
1 -
فمثال نوع منها ما حدثناه أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك ببغداد حدثنا أيوب بن سليمان السعدي حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني أبو روح حدثنا هلال بن حق عن الجريري عن أبي العلاء وهو ابن الشخير عن رجلين من بني حنظلة عن شداد بن أوس قال
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم أحدنا أن يقول في صلاته اللهم إني أسألك التثبت في الأمور وعزيمة الرشد وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأستغفرك لما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأسألك من خير ما تعلم
هذا الإسناد مثال لنوع من المنقطع لجهالة الرجلين بين أبي العلاء بن الشخير وشداد بن أوس وشواهده في الحديث كثيرة
2 -
وقد يروي الحديث وفي إسناده رجل غير مسمى وليس بمنقطع ومثال ذلك ما أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب التاجر بمرو حدثنا أحمد بن سيار حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان الثوري حدثنا داود بن أبي هند حدثنا شيخ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي على الناس زمان يخير الرجل بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور
وهكذا واه عتاب بن بشير والهياج بن بسطام عن داود بن أبي هند وإذا

الرجل الذي لم يقفوا على اسمه أبو عمر الجدلي وهذا النوع من المنقطع الذي لا يقف عليه إلا الحافظ الفهم المتبحر في الصنعة وله شواهد كثيرة جعلت هذا الواحد شاهدا لها
3 -
والنوع الثالث من المنقطع أن يكون في الإسناد رواية راو لم يسمع من الذي يروي عنه الحديث قبل الوصول إلى التابعي الذي هو موضع الإرسال ولا يقال لهذا النوع من الحديث مرسل وإنما يقال له منقطع
مثاله ما حدثناه أبو النصر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي حدثنا محمد بن سهل بن عسكر حدثنا عبد الرزاق قال ذكر الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم وإن وليتموها عليا فهاد مهدي يقيكم على طريق مستقيم
هذا إسناد لا يتأمله متأمل إلا علم اتصاله وسنده فإن الحضرمي ومحمد بن سهل بن عسكر ثقتان وسماع عبد الرزاق من سفيان الثوري واشتهاره به معروف وكذلك سماع الثوري من أبي إسحاق واشتهاره به معروف وفيه انقطاع في موضعين فإن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري والثوري لم يسمعه من أبي إسحاق
أخبرناه أبو عمرو بن السماك حدثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي

حدثنا محمد بن أبي السري حدثنا عبد الرزاق أخبرني النعمان بن أبي شيبة الجندي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق فذكر نحوه
حدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة حدثنا الحسن بن علويه القطان حدثني عبد السلام بن صالح حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا سفيان الثوري حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن حذيفة قال ذكروا الإمارة والخلافة عند النبي صلى الله عليه و سلم فذكر الحديث بنحوه
وكل من تأمل ما ذكرناه من المنقطع علم وتيقن أن هذا العلم من الدقيق الذي لا يستدركه إلا الموفق والطالب المتعلم
ذكر النوع العاشر من علوم الحديث النوع العاشر معرفة المسلسل من الأسانيد ولم يذكر الحاكم تعريف المسلسل وإنما نوعه إلى ثمانية أنواع اكتفى فيها بذكر أمثلتها ثم قال في آخرها فهذه أنواع المسلسل من الأسانيد المتصلة التي لا يشوبها تدليس وآثار السماع بين الروايين ظاهرة غير أن رسم الجرح والتعديل عليهما محكم وإني لا أحكم لبعض هذه الأسانيد بالصحة وإنما ذكرتها ليستدل بشواهدها عليها
وقد تعرض ابن الصلاح لعبارة الحاكم مع بيان حد المسلسل فاقتضى الحال إيراد عبارته هنا إتماما للفائدة قال النوع الثالث والثلاثون معرفة المسلسل من الحديث
التسلسل من نعوت الأسانيد وهو عبارة عن تتابع رجال الإسناد وتواردهم فيه واحدا بعدواحد على صفة أو حالة واحدة
وينقسم ذلك إلى ما يكون صفة للرواية والتحمل وإلى ما يكون صفة للرواة

أو حالة لهم ثم إن صفاتهم في ذلك وأحوالهم أقوالا وأفعالا ونحو ذلك تنقسم إلى ما لا نحصيه
ونوعه الحاكم أبو عبد الله الحافظ إلى ثمانية أنواع والذي ذكره فيها إنما هو صور وأمثله ثمانية ولا انحصار لذلك في ثمانية كما ذكرناه
ومثال ما يكون صفة للرواية والتحمل ما يتسلسل بسمعت فلانا قال سمعت فلانا إلى آخر الإسناد أو يتسلسل بحديثنا أو أخبرنا إلى آخره ومن ذلك أخبرنا والله فلان قال أخبرنا والله فلان إلى آخره
ومثال ما يرجع إلى صفات الرواة وأقوالهم ونحوها إسناد حديث اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك المسلسل بقولهم إني أحبك فقل وحديث التشبيك باليد وحديث العد في اليد في أشباه لذلك نرويها وتروى كثيرة وخيرها ما كان فيها دلالة على اتصال السماع وعدم التدليس
ومن فضيلة التسلسل اشتماله على مزيد الضبط من الرواة وقلما تسلم المسلسلات من ضعف أعني في وصف التسلسل لا في أصل المتن ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده وذلك نقص فيه وهو كالمسلسل بأول حديث سمعته على ما هو الصحيح في ذلك والله أعلم
ذكر النوع الحادي عشر من علوم الحديث هذا النوع من هذه العلوم هو معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل فالرواة الذين ليس من مذاهبهم التدليس سواء عندنا ذكروا سماعهم أو لم يذكروه


ذكر النوع الثاني عشر من علوم الحديث هذا النوع من هذه العلوم هو المعضل من الروايات فقد ذكر إمام الحديث علي بن عبد الله المديني فمن بعده من أئمتنا أن المعضل من الروايات أن يكون بين المرسل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر من رجل وأنه غير مرسل فإن المراسيل للتابعين دون غيرهم
مثال هذا النوع من الحديث ما حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا ابن وهب أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه عن عمرو بن شعيب قال قاتل عبد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لك سيدك قال لا فقال لو قتلت لدخلت النار قال سيده فهو حر يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم الآن فقاتل
فقد أعضل هذا الإسناد عمرو بن شعيب ثم لا نعلم أحدا من الرواة وصله ولا أرسله عنه فهو معضل وليس كل شيء ما يشبه هذا معضلا فربما أعضل أتباع التابعين الحديث وأتباعهم في وقت ثم وصلاه أو أرسله في وقت
والنوع الثاني من المعضل أن يعضله من أتباع التابعين فلا يرويه عن أحد ويوقفه فلا يذكره عن رسول الله صلى الله عليه و سلم معضلا ثم يوجد ذلك الكلام عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متصلا
هذا وقد قضى الحال بأن نورد هنا ما قاله أناس من أرباب الفن ممن كان بعد الحاكم إتماما للفائدة قال ابن الصلاح المعضل لقب لنوع خاص من المنقطع فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضلا وقوم يسمونه مرسل كما سبق وهو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا
وأصحاب الحديث يقولون أعضله فهو معضل بفتح الضاد وهو اصطلاح

مشكل المأخذ من حيث اللغة وبحثت فوجدت لهم قولهم أمر عضيل أي مستغلق شديد ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد وإن كان مثل عضيل في المعنى
ومثاله ما يرويه تابع التابعي قائلا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك ما يرويه من دون تابعي التابعي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عن أبي بكر أو عمر أو غيرهما غير ذاكر للوسائط بينه وبينهم
وذكر أبو بكر نصر السجزي الحافظ قول الراوي بلغني نحو قول مالك بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للملوك طعامه وكسوته الحديث وقال أي السجزي أصحاب الحديث يسمونه المعضل
قلت وقول المصنفين من الفقهاء وغيرهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا وكذا ونحو ذلك كله من قبيل المعضل لما تقدم وسماه الخطيب أبو بكر الحافظ في بعض كلامه مرسلا وذلك على مذهب من يسمى كل ما لا يتصل مرسلا كما سبق
وإذا روى تابعي التابعي عن التابعي حديثا موقوفا عليه وهو حديث متصل مسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد جعله الحاكم أبو عبد الله نوعا من المعضل مثاله ما رويناه عن الأعمش عن الشعبي قال يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا فيقول ما عملته فيختم على فيه الحديث فقد أعضله الأعمش وهو عند الشعبي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متصل مسند
قلت هذا جيد حسن لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين الصحابي ورسول الله صلى الله عليه و سلم فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى والله أعلم
وقال الحافظ العراقي المعضل ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا من أي

موضع كان سواء سقط الصحابي والتابعي أو التابعي وتابعه أو اثنان قبلهما لكن بشرط أن يكون سقوطهما من موضع واحد أما إذا سقط واحد من بين رجلين ثم سقط من وموضع آخر من الإسناد واحد آخر فهو منقطع في موضعين ولم أجد في كلامهم إطلاق المعضل عليه وأما قول ابن الصلاح المعضل هو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا فهو وإن قول ابن الصلاح المعضل هو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا فهو وإن كان مطلقا فهو محمول عليه ا هـ
وقال غيره إن قول ابن الصلاح إن المعضل لقب لنوع خاص من المنقطع فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضلا إنما هو جار على قول من لا يخص المنقطع بما سقط من إسناده راو واحد ولا يخصه بالمرفوع وقد نقلنا سابقا شيئا مما ذكره الحاكم في المنقطع
وقال الحافظ العراقي اختلف في صورة الحديث المنقطع فالمشهور أنه ما سقط من رواته راو واحد غير الصحابي وحكى ابن الصلاح عن الحاكم وغيره من أهل الحديث أنه ما سقط منه قبل الوصول إلى التابعي شخص واحد وإن كان أكثر من واحد سمي معضلا ويسمى أيضا منقطعا فقول الحاكم قبل الوصول إلى التابعي ليس بجيد فإنه لو سقط التابعي كان منقطعا أيضا فالأولى أن يعبر بما قلنا قبل الصحابي
وقال ابن عبد البر المنقطع ما لم يتصل إسناده والمرسل مخصوص بالتابعين فالمنقطع أعم وحكى ابن الصلاح عن بعضهم أن المنقطع مثل المرسل شامل لكل ما لا يتصل إسناده قال وهذا المذهب أقرب وإليه صار طوائف من الفقهاء وغيرهم وهو الذي ذكره الخطيب في كفايته إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه و سلم واكثر ما يوصف بالانقطاع ما رواه من دون التابعين عن الصحابة مثل مالك عن ابن عمر ونحو ذلك ا هـ

وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل قال وجميع ما فيه من قوله بلغني ومن قوله عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة لا تعرف أحدها إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن والثاني أن رسول الله أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله فكأنه تقاصر أعمار أمته والثالث قول معاذ وآخر ما وصاني به رسول الله وقد وضعت رجلي في الغرز أن قال حسن خلقك للناس والرابع إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة
ومن مظان المرسل والمنقطع والمعضل كتاب السنن لسعيد بن منصور
تنبيه قد وقع في كلام بعض علماء الحديث استعمال المعضل فيما لم يسقط فيه شيء من الإسناد أصلا وذلك فيما فيه إشكال من جهة المعنى مثال ذلك ما رواه الدولابي في الكنى من طريق خليد بن دعلج عن معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا من كانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته وقال هذا معضل يكاد يكون باطلا والظاهر أنه هنا بكسر الضاد من قولهم أعضل الأمر إذا اشتد واستغلق وأمر معضل لا يهتدي لوجهه
ذكر النوع الثالث عشر من علوم الحديث هذا النوع هو معرفة المدرج في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من كلام الصحابة وتخليص كلام غيره من كلامه
ومثال ذلك ما حدثناه أبو بكر بن إسحاق الفقيه أنبأنا عمر بن حفص السدوسي حدثنا عاصم بن علي حدثنا زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر

عن القاسم بن مخيمرة قال أخذ علقمة بيدي وحدثني أن عبد الله أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيد رسول الله أخذ بيد عبد الله فعلمه في الصلاة وقال قل التحيات لله والصلوات فذكر التشهد قال فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد
هكذا رواه جماعة عن زهير وغيره عن الحسن بن الحر وقوله إذا قلت هذا مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود ثم ذكر دليل الإدراج
قال أهل الأثر الإدراج نوعان إدراج في المتن وإدراج في الإسناد أما الإدراج في المتن فهو أن يورد في متن الحديث ما ليس منه على وجه يوهم أنه منه ويسمى ذلك المورد مدرج المتن وهو ثلاثة أقسام مدرج في آخر الحديث ومدرج في أوله ومدرج في أثنائه
أما المدرج في آخر الحديث فهو الغالب المشهور في هذا النوع ولذا اقتصر ابن الصلاح عليه ومثاله ما ورد في آخر حديث التشهد المذكور سابقا وهو فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد فإن هذا الكلام مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود وهو مدرج في آخر الحديث
وقد رواه شبابه بن سوار عنه ففصله وبين أنه من قول عبد الله فقال قال عبد الله فإذا قلت ذلك فقد قضيت ما عليك من الصلاة فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد رواه الدارقطني وقال شبابة ثقة وقد فصل آخر الحديث وجعله من قول ابن مسعود وهو أصح من رواية من أدرج آخره وقوله أشبه بالصواب
وأما المدرج في أول الحديث فقليل ومثاله ما رواه شبابه بن سوار وغيره عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار

فقوله أسبغوا الوضوء من قول أبي هريرة أدرج في الحديث في أوله ويدل على الإدراج ما رواه البخاري عن آدم بن أبي إياس عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة انه قال أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم صلى الله عليه و سلم قال ويل للأعقاب من النار رواه بعضهم مقتصرا على المرفوع
ثم إن قول أبي هريرة أسبغوا الوضوء قد روي في الصحيح مرفوعا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
وقال بعضهم إن هذا القسم نادر جدا حتى إنه يعز أن يوجد له مثال ثان يعزز به هذا المثال
واما المدرج في أثناء الحديث فهو كثير إذا نظر إلى ما أدرج لتفسير الألفاظ الغريبة ومثاله خبر هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن بسرة بنت صفوان مرفوعا من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ
قال الدارقطني كذا رواه عبد الحميد عن هشام وقد وهم في ذكر الأنثيين والرفغ وإدراجه ذلك في حديث بسرة والمحفوظ أن ذلك من قول عروة غير مرفوع وكذلك رواه الثقات عن هشام منهم أيوب السختياني وحماد بن زيد وغيرهما
وقد روي من طريق أيوب من مس ذكره فليتوضأ وكان عروة يقول إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ فكانه لاح له من معنى الخبر أن مس ما قرب من الذكر بمنزلة مس الذكر فقال ما قال فظن بعض الرواة أن ما قاله هو نفس الخبر فأوردوه كذلك وقد تبين للباحثين أن الأنثيين والرفغ مدرجان في أثناء الخبر
وقد روي من مس رفغه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ وقد توهم بعضهم أنه على هذه الرواية يكون مثالا ثانيا لما وقع فيه الإدراج في الأول وليس كذلك لأن أول الحديث هو من مس وآخره فليتوضأ فالإدراج على كل حال إنما وقع في أثناء الحديث والرفغ بضم الراء وفتحها أصل الفخذين
ومثال ما أدرج في أثناء الحديث لتفسير لفظ غريب حديث أنا زعيم

والزعيم الحميل ببيت في الجنة الحديث فقوله والزعيم الحميل مدرج في أثناء الحديث لتفسير اللفظ الغريب فيه
والإدراج بجميع أقسامه محظور قال ابن السمعاني من تعمد الإدراج فهو ساقط العدالة وممن يحرف الكلم عن مواضعه وهو ملحق بالكذابين وقد استثنى بعضهم من ذلك ما ادرج لتفسير لفظ غريب لقلة وقوع الالتباس فيه وقد فعله الزهري وغيره
ولا يسوغ الحكم بالإدراج إلا إذا وجد ما يدل عليه فمن ذلك دلالة المدرج على امتناع نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم وذلك كقول أبي هريرة في حديث للعبد المملوك أجران والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك وكقول ابن مسعود كما جزم به سليمان بن حرب في حديث الطيرة شرك وما منا إلا ومن ذلك تصريح بعض الرواة بالفصل وذلك بإضافته لقائله ويتقوى باقتصار بعض الرواة على الأصل كحديث التشهد وهذا هو الأكثر
ومما دل الدليل على الإدراج فيه حديث ابن مسعود من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ففي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه و سلم كلمة وقلت أنا أخرى فذكرهما فأفاد أن إحدى الكلمتين من قوله ثم وردت رواية ثالثة أفادت ان الكلمة التي من قوله هي الثانية وأكد ذلك رواية رابعة اقتصر فيها على الكلمة الأولى مضافة إلى النبي صلى الله عليه و سلم
ومما دلت الأمارة على الإدراج فيه حديث الكسوف على ما ورد في رواية ابن ماجه وهو إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له فإن هذه الجملة الأخيرة وهي فإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له يظهر أنها مدرجة من كلام بعض الرواة ولذا لم تقع في سائر الروايات مع أن حديث الكسوف قد روي عن بضعة عشر من الصحابة على انه يكفي أن يقال إنها مخالفة للرواية التي وقعت في الصحيح وهي أن الشمس والقمر

آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة
قال أبو حامد الغزالي إن هذه الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها وغنما المروي ما ذكرنا يعني الحديث الذي ليست فيه هذه الزيادة قال ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التي لا تتبين في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه طريق إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك
وقد ضعف العلامة ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج فيما إذا كان المدرج مقدما على اللفظ المروي أو في أثنائه لا سيما في مثل من مس ذكره أو أنثييه فليتوضأ وقال إن الإدراج إنما يكون بلفظ تابع يمكن استقلاله عن اللفظ السابق
قال بعض العلماء وكأن الحامل لهم على عدم تخصيص الإدراج بآخر الخبر تجويز كون التقديم والتأخير من الراوي لظنه الرفع في الجميع واعتماده على الرواية بالمعنى فيبقى المدرج حينئذ في أول الخبر أو أثنائه
وعلى كل حال فالمرجع إلى الدليل المقتضى لغلبة الظن فإذا وجد حكم بالإدراج سواء كان ذلك في الآخر أو في الأول أو في الوسط
هذا وأما مدرج الإسناد فهو ما يكون الإدراج فيه له تعلق ما بالإسناد وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول أن يكون الحديث عند راويه بإسناد إلا طرفا منه فإنه عنده بإسناد آخر فيروي الراوي عنه جميعه بالإسناد الأول
ويلحق بهذا القسم قسم أفرده بعضهم عنه وهو أن يسمع الحديث من شيخه إلا طرفا ثم يسمع لك الطرف بواسطة عنه ثم يرويه جميعه عنه بلا واسطة
ومثال ذلك حديث إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس في قصة

العرنيين وان النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من ألبانها وأبوالها فإن لفظة وأبوالها إنما سمعها حميد ن قتادة عن أنس كما بينه محمد بن أبي عدي ومروان بن معاوية ويزيد بن هارون وغيرهم إذ رووه عن حميد عن أنس بلفظ فشربتم من ألبانها وعندهم قال حميد قال قتادة عن انس وأبوالها فرواية إسماعيل على هذا فيها إدراج فيه تدليس
القسم الثاني أن يدرج بعض حديث في حديث آخر مخالف له في السند
ومثاله حديث رواه سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا الحديث
فقوله ولا تنافسوا مدرج في هذا الحديث أدرجه ابن أبي مريم فيه من حديث آخر لمالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا وكلا الحديثين متفق عليه من طريق مالك وليس في الأول ولا تنافسوا وهو في الحديث الثاني
قال الخطيب وابن عبد البر إن ابن مريم قد وهم في ذلك وخالف جميع الرواة عن مالك في الموطأ وقال حمزة الكناني لا أعلم أحدا قالها عن مالك في حديث أنس غيره
القسم الثالث أن يروي جماعة الحديث بأسانيد مختلفة فيرويه عنهم راو فيجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد ولا يبين الاختلاف
ذكر النوع الرابع عشر من علوم الحديث النوع الرابع عشر من هذا العلم معرفة التابعين
وهذا النوع يشتمل على علوم كثيرة فإنهم على طبقات في الترتيب ومتى غفل

الإنسان عن هذا العلم لم يفرق بين الصحابة والتابعين ثم لم يفرق أيضا بين التابعين وأتباع التابعين قال الله عز و جل ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )
وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حدثناه أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك ببغداد وأبو العباس محمد بن يعقوب الموي بنيسابور وأبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي بمرو قالوا حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي حدثنا أزهر بن سعد حدثنا ابن عون عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فلا أدري أذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة
هذا حديث مخرج في الصحيح لمسلم بن الحجاج وله علة عجيبة حدثناه محمد بن صالح بن هانئ حدثنا محمد بن نعيم حدثنا عمرو بن علي حدثنا أزهر حدثنا ابن عون عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني قال فحدثت به يحيى بن سعيد فقال ليس في حديث ابن عون عن عبد الله فقلت له بلى فيه قال لا فقلت إن أزهر حدثنا عن ابن عون عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله قال رأيت أزهر جاء بكتابه ليس فيه عن عبد الله قال عمرو بن علي فاختلفت إلى أزهر قريبا من شهرين للنظر فيه فنظر في كتابه ثم خرج فقال لم أجده إلا عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه و سلم
فخير الناس قرنا بعد الصحابة من شافه أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم وحفظ عنهم الدين والسنن وهم قد شهدوا الوحي والتنزيل

فمن الطبقة الأولى من التابعين وهم قوم لحقوا العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجنة سعيد بن المسيب وقيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي وقيس بن عباد وأبو ساسان حضين بن المنذر وأبو وائل شقيق بن سلمة وأبو رجاء العطاردي
ومن الطبقة الثانية الأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس ومسروق بن الأجدع وأبو سلمة بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد
ومن الطبقة الثالثة عامر بن شراحيل الشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وشريح بن الحارث وهم خمس عشرة طبقة آخرهم من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة ومن لقي عبد الله بن الحارث بن جزء من أهل مصر ومن لقي أبا أمامة الباهلي من أهل الشام
وأما الفقهاء السبعة من أهل المدينة فسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار فهؤلاء الفقهاء السبعة عند الأكثر من علماء الحجاز
وأما المخضرمون من التابعين فهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وليست لهم صحبة فمنهم أبو رجاء العطاردي وأبو وائل الأسدي وسويد بن غفلة وأبو عثمان النهدي
وحدثني بعض مشايخنا من الأدباء أن المخضرم اشتقاقه من أن أهل الجاهلية كانوا يخضرمون آذان الإبل يقطعونها لتكون علامة لإسلامهم إن أغير عليها أو حوربوا

ومن التابعين بعد المخضرمين طبقة ولدوا في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يسمعوا منه منهم محمد بن أبي بكر الصديق وأبو أمامة بن سهل بن حنيف وسعيد بن سعد بن عبادة والوليد بن عبادة بن الصامت وعلقمة بن قيس
وطبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة منهم إبراهيم بن سويد النخعي وإنما روايته الصحيحة عن علقمة والأسود ولم يدرك أحدا من الصحابة وليس هذا بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه ومنهم ثابت بن عجلان الأنصاري ولم يصح سماعه من ابن عباس وإنما يروي عن عطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس
وطبقة عداده عند الناس في أتباع التابعين وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبد الله بن ذكوان وقد لقي عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبا أمامة بن سهل وقد أدخل على عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله انتهى ما ذكره الحاكم
قال بعض أهل الأثر اختلف في طبقات التابعين فجعلهم مسلم في كتاب الطبقات ثلاث طبقات وجعلهم ابن سعد أربع طبقات وقال الحاكم هم خمس عشرة طبقة الأولى منها قوم لحقوا العشرة منهم سعيد بن المسيب وقيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي وقيس بن عباد وأبو ساسان حضين بن المنذر وأبو وائل شقيق بن سلمة وأبو رجاء العطاردي
وقد اعترض على الحاكم في ذلك فإن سعيد بن المسيب إنما ولد في خلافة عمر بن الخطاب ولم يسمع من أكثر العشرة بل قال بعضهم إنه لا تصح له رواية عن أحد من العشرة إلا سعد بن أبي وقاص وكان سعد آخرهم موتا على انه ليس في التابعين من أدرك العشرة وسمع منهم سوى قيس بن أبي حازم ذكر ذلك الحافظ

عبد الرحمن بن يوسف بن خراش وروي عن أبي داود أنه قال إنه روى عن التسعة ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف
ذكر النوع الخامس عشر من علوم الحديث وهو معرفة أتباع التابعين فإن غلط من لا يعرفهم عظم وهم الطبقة الثالثة بعد النبي صلى الله عليه و سلم وفيهم جماعة من أئمة المسلمين وفقهاء الأمصار وفي هذه الطبقة جماعة يشتبه على المتعلم أساميهم فيتوهمهم من التابعين لنسب يجمعهم أو غير ذلك
منهم الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو الذي يعرف بالحسين الأصغر يروي عنه عبد الله بن المبارك وغيره وربما قال الراوي عن حسين بن علي عن أبيه فيشتبه على من لا يتحقق أنه مرسل ويتوهمه من التابعين وليس كذلك فإن أولاد علي بن الحسين وين العابدين ستة منهم وهم حدثوا محمد وعبد الله وزيد وعمر وحسين وفاطمة وليس فيهم تابعي غير محمد وهو أبو جعفر باقر العلوم
ومنهم سليمان الأحول وهو سليمان بن أبي مسلم المكي وربما روي عنه عن ابن عباس فيتأمل الراوي حاله فيقول هذا كبير وهو خال عبد الله بن أبي نجيح فلا ينكر أن يلقى الصحابة وليس كذلك فإنه من الأتباع ورواياته عن طاوس عن ابن عباس
ومنهم سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وعدداه في المصريين كبير السن والمحل روى عنه عمرو بن الحارث وشعبة والليث وقد قيل عنه عن البراء بن عازب فإذا تأمل الراوي محله وسنه وجلالة الرواة عنه لا يستبعد كونه من التابعين وليس كذلك فإن بينه وبين البراء عبيد بن فيروز

فقد ذكرنا هذه الأسامي ليستدل بها على جماعة من أتباع التابعين لم نذكرهم ويعلم بذلك أن معرفة التباع نوع كبير من العلم
ذكر النوع السادس عشر من علوم الحديث هذا النوع في معرفة الأكابر الرواة عن الأصاغر وشرح هذه لامعرفة أن طالب هذا العلم إذا كتب حديثا لليث عن عبد الله بن صالح لا يتوهم أن الراوي دون المروي عنه كذلك إذا روى حديثا لابن جريح عن إسماعيل بن علية وما أشبه هذا ومثاله في الروايات كثير
والمثال الثاني لهذا النوع أن يروي العالم الحافظ المتقدم عن المحدث الذي لا يعلم غير الرواية من كتابه فينبغي للطالب أن يعلم فضل التابع على المتبوع
مثال هذا رواية ابن أبي ذئب عن عبد الله بن دينار وأشباهه ورواية احمد وإسحاق عن عبيد الله بن موسى وأشباهه وليس في هؤلاء مجروح بل كلهم من أهل الصدق إلا أن الرواة عنهم أئمة حفاظ وهم محدثون فقط وقد رأيت في زماننا من هذا النوع ما يطول ذكره ا هـ
قال بعض أهل الأثر هذا نوع مهم تدعو إليه الهمم العالية والنفس الزاكية وقد قيل لا يكون الرجل محدثا حتى يأخذ عمن فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه
ومن فوائد معرفته الأمن من أن يظن الانقلاب في السند والأمن من أن يتوهم كون المروي عنه أكبر أو أفضل نظرا إلى أن الأغلب كون المروي عنه كذلك فتجهل منزلتهما
ومن هذا النوع رواية الصحابة عن التابعين ومنها رواية العبادلة وغيرهم من

الصحابة كأبي هريرة وأنس عن كعب الحبار
وممن جرى على ذلك الإمام البخاري فقد ذكروا أن الذين كتب عنهم وحدث عنهم ينقسمون إلى خمسة طبقات الطبقة الأولى من حدثه عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري فإنه حدثه عن حميد ومثل مكي بن إبراهيم فإنه حدثه عن يزيد بن أبي عبيد ومثل أبي نعيم فإنه حدثه عن الأعمش
الطبقة الثانية من كان في عصر هؤلاء لكنه لم يسمع من ثقات التابعين كسعيد بن أبي مريم وأيوب بن سليمان
الطبقة الثالثة وهي الوسطى من مشايخه من لم يلق التابعين لكن أخذ عن كبار أتباع التابعين كسليمان بن حرب وعلي بن المديني ويحيى بن معين وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم
الطبقة الرابعة رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا كأبي حاتم الرازي وعبد بن حميد واحمد بن النضر وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه أو ما لم يجده عند غيرهم
الطبقة الخامسة قوم في عداد طلبته في السن والإسناد سمع منهم للفائدة كعبد الله بن حماد الأملي وعبد الله بن أبي العاص الخوارزمي وحسين بن محمد القباني
وقد روى عنهم أشياء يسيرة وعمل في الرواية عنهم بما روى عثمان بن أبي شيبة عن وكيع أنه قال لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه ومما روي عنه نفسه أنه قال لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه
ذكر النوع السابع عشر من علوم الحديث هذا النوع من هذا العلم في معرفة أولاد الصحابة فإن من جهل هذا النوع

اشتبه عليه كثير من الروايات وأول ما يلزم الحديثي معرفته من ذلك أولاد سيد البشر محمد المصطفى صلى الله عليه و سلم ومن صحت الرواية عنه منهم وقد روي الحديث عن زهاء مئتي رجل وامرأة من أهل البيت ثم بعد هذا معرفة أولاد التابعين وأتباع التابعين وغيرهم من أئمة المسلمين علم كبير ونوع بذاته من أنواع علم الحديث
ذكر النوع الثامن عشر من علوم الحديث هذا النوع من علم الحديث في معرفة الجرح والتعديل وهما في الأصل نوعان كل نوع منهما علم برأسه وهو ثمرة هذا العلم والمرقاة الكبيرة منه وقد تكلمت عليه في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح بكلام شاف رضيه كل من رآه من أهل الصنعة
وأصل عدالة المحدث أن يكون مسلما لا يدعو إلى بدعة ولا يعلن من أنواع المعاصي ما تسقط به عدالته فإن كان مع ذلك حافظا لحديثه فهي أرفع درجات المحدثين وإن كان صاحب كتاب فلا ينبغي أن يحدث إلا من أصوله وأقل ما يلزمه أن يحسن قراءة كتابه وإن كان المحدث غريبا لا يقدر على إخراج أصوله فلا يكتب عنه إلا ما يحفظه إذا لم يخالف الثقات في حديثه فإن حدث من حفظه المناكير التي لا يتابع عليها لم يؤخذ عنه
وقد اختلف أئمة الحديث في أصح الأسانيد فحدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن سليمان قال سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر
وسمعت أبا بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة يحكي عن بعض شيوخه عن

أبي بكر بن أبي شيبة قال أصح الأسانيد كلها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي
حدثني الحسين بن عبد الله الصيرفي قال حدثني محمد بن حماد الدوري بحلب قال أخبرني أحمد بن القاسم بن نصر بن دوست قال حدثنا حجاج ابن الشاعر قال
اجتمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني في جماعة معهم اجتمعوا فتذاكروا فذكروا أجود الأسانيد الجياد
فقال رجل منهم أجود الأسانيد شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عامر أخي أم سلمة عن أم سلمة
وقال علي بن المديني أجود الأسانيد ابن عون عن محمد عن عبيدة عن علي
وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل أجود الأسانيد الزهري عن سالم عن أبيه
وقال يحيى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله
فقال له إنسان الأعمش مثل الزهري فقال برئت من الأعمش أن يكون مثل الزهري الزهري يرى العرض والإجازة وكان يعمل لبني أمية وذكر الأعمش فمدحه فقال فقير صبور مجانب للسلطان وذكر علمه بالقرآن وورعه
فأقول وبالله التوفيق إن هؤلاء الأئمة الحفاظ قد ذكر كل منهم ما أدى إليه اجتهاده في أصح الأسانيد ولكل صحابي رواة من التابعين ولهم أتباع وأكثرهم ثقات فلا يمكن أن يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد فنقول وبالله التوفيق
إن أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي إذا كان الراوي عن جعفر ثقة

وأصح أسانيد الصديق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر
وأصح أسانيد عمر الزهري عن سالم عن أبيه عن جده
وأصح أسانيد المكثرين من الصحابة كعبد الله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر وأصح أسانيد أنس مالك بن أنس عن الزهري عن أنس
ثم ذكر أوهى الأسانيد ثم قال والكلام في الجرح والتعديل أكثر مما يمكن الاستقصاء فيه لكني قصدت الاختصار في هذا الكتاب ليستدل بالحديث الواحد على أحاديث كثيرة وقد استقصيت الكلام في إباحة جرح المحدث في المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل فاستغنت به عن إعادته ا هـ
ذكر النوع التاسع عشر من علوم الحديث وهو معرفة الصحيح والسقيم وهذا النوع من هذه العلوم غير الجرح والتعديل الذي قدمنا ذكره فرب إسناد يسلم من المجروحين غير مخرج في الصحيح فكم من حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت وهو معلول واه
فالصحيح لا يعرف برواته فقط وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع
وليس لهذا النوع من العلم عون اكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث فإذا وجدت مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته
وصفة الحديث الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يتداوله أهل

الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة
أخبرنا محمد بن أحمد بن تميم الأصم حدثنا عبيد بن شريك قال حدثنا نعيم بن حماد قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول قيل لشعبة من الذي يترك حديثه قال إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعرفون فأكثر ترك حديثه وإذا اتهم بالكذب ترك حديثه وإذا أكثر الغلط ترك حديثه وإذا روى حديثا اجتمع عليه أنه غلط ترك حديثه وما كان غير هذا فارو عنه
أخبرني عبد الله بن محمد بن موسى قال حدثنا إسماعيل بن قتيبة قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال إن من الحديث حديثا له وضوء كضوء النهار نعرفه به وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا العباس بن محمد الدوري قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا جرير عن رقبة ان عبد الله بن مسور المدائني وضع أحاديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحتملها الناس
حدثنا أبو بكر الشافعي قال حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي قال حدثنا عبد العزيز الأويسي قال حدثنا مالك قال كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول لابن شهاب إن حالي ليست تشبه حالك فقال له ابن شهاب وكيف لك قال ربيعة أنا أقول برأي من شاء أخذه فاستحسنه وعمل به ومن شاء تركه وأنت في القوم تحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم فيحفظ
ذكر النوع العشرين من علوم الحديث النوع العشرون من هذا العلم بعد معرفة ما قدمنا كره من صحة الحديث إتقانا ومعرفة لا تقليدا وظنا معرفة فقه الحديث إذ هو ثمرة هذه العلوم وبه قوام الشريعة

يم ذكر أناسا ممن عرف بفقه الحديث من أهل الحديث منهم محمد بن مسلم الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الرحمن الأوزاعي وسفيان بن عيينة الهلالي وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن يحيى التميمي واحمد بن محمد بن حنبل وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني ويحيى بن معين وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وغيرهم
وأورد عند ذكر كل واحد منهم ما قيل في شأنه من الثناء ولربما أورد شيئا من كلامه مما يتعلق بهذا النوع
ثم قال قد اختصرت هذا الباب وتركت أسامي جماعة من أئمتنا كان من حقهم أن أذكرهم في هذا الموضع فمنهم أبو داود السجستاني ومحمد بن عبد الوهاب العبدي وأبو بكر الجارودي وإبراهيم بن أبي طالب وأبو عيسى الترمذي وموسى بن هارون البزاز ةالحسن بن علي المعمري وعلي بن الحسين بن الجنيد ومحمد بن مسلم بن واره ومحمد بن عقيل البلخي وغيرهم من مشايخنا رضي الله عنهم أجمعين
ذكر النوع الحادي والعشرين من علوم الحديث هذا النوع في معرفة ناسخ الحديث من منسوخه وأنا ذاكر بمشيئة الله تعالى منه أحاديث يستدل بها على الكثير
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار قال حدثنا أحمد بن مهدي بن رستم قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا شعبة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن عبد الله بن عمرو القاري عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال توضئوا مما غيرت النار

قال أبو عبد الله هذا المر منسوخ والناسخ له ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن عوف قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار ثم ذكر أمثلة أخرى
ذكر النوع الثاني والعشرين من علوم الحديث هذا النوع منه في معرفة الألفاظ الغريبة في المتون وهذا علم قد تكلم فيه جماعة من أتباع التابعين منهم مالك والثوري وشعبة فمن بعدهم
وأول من صنف الغريب في الإسلام النضر بن شميل له فيه كتاب هو عندنا بلا سماع ثم صنف فيه أبو عبيد القاسم بن سلام كتابه الكبير ا هـ
قال ابن الصلاح وخالف بعضهم الحاكم فقال أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى وقال بعضهم أول من جمع في هذا الفن شيئا وألفه أبو عبيدة ثم النضر بن شميل ثم عبد الملك بن قريب الأصمعي وكان في عصر أبي عبيدة وتاخر عنه وصنف في ذلك قطرب ثم بعد المئتين جمع أبو عبيد القاسم بن سلام كتابه المشهور
ذكر النوع الثالث والعشرين من علوم الحديث هذا النوع من هذا العلم في معرفة المشهور من الأحاديث والمشهور غير الصحيح فرب حدي مشهور لم يخرج في الصحيح فمن ذلك طلب العلم فريضة على كل مسلم ومنه نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ومنه لا نطاح إلا بولي ومنه من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فكل هذه الأحاديث مشهورة بأسانيدها وطرقها وأبواب يجمعها أصحاب الحديث وكل حديث منها تجمع طرقه في جزء أو جزئين ولم يخرج في الصحيح منها حرف

وأما الأحاديث المخرجة في الصحيح فمنها إنما الأعمال بالنيات وغنما لكل امرئ ما نوا ومنها إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس الحديث ومنها كل معروف صدقة ومنها إنما جعل الإمام ليؤتم به ومنها تقتل عمارا الفئة الباغية ومنها المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ومنها لا تقاطعوا ولا تدابروا والطوال من الأحاديث مثل حديث الإيمان وحديث الزكاة وحديث الحج وحديث المعراج
ومن الطوال التي لم تخرج في الصحيح حديث الطير وحديث قس بن ساعدة وحديث أم معبد وغيرها من الطوال
فهذه الأنواع التي ذكرنا من المشهور الذي يعرفه أهل العلم وقلما يخفى ذلك عليهم وهو المشهور الذي يستوي في معرفته الخاص والعام
وأما المشهور الذي يعرفه أهل الصنعة فمثال ذلك ما حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن أبي الوزير التاجر قال حدثنا أبو حاتم الرازي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثني سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قنت شهرا بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان
قال أبو عبد الله هذا حديث مخرج في الصحيح وله رواة عن أنس غير أبي مجلز ورواه عن أبي مجلز غير التيمي ورواه عن التيمي غير الأنصاري ولا يعلم ذلك غير أهل الصنعة فإن غيرهم يقول هو صاحب أنس وهذا حديث غريب أن يرويه عن رجل عن أنس
ولا يعلم ان الحديث عند الزهري وقتادة وله عن قتادة طرق كثيرة ولا يعلم أيضا أن الحديث بطوله في ذكر العرنيين يجمع ويذاكر بطرقه وأمثال هذا الحديث ألوف من الأحاديث التي لا يقف على شهرتها غير أهل الحديث المجتهدين في جمعه ومعرفته


ذكر النوع الرابع والعشرين من علوم الحديث هذا النوع منه في معرفة الغريب من الحديث وليس هذا العلم ضد الأول فإنه يشتمل على أنواع شتى لا بد من شرحها في هذا الموضع
فنوع منه غرائب الصحيح مثال ذلك ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا يونس بن بكير عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال حدثني أيمن قال سمعت جابر بن عبد الله يقول كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كذانة وهي الجبل فقلت يا رسول الله كذانة قد عرضت فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم رشوا عليها ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع فذكر حديثا

طويلا فيه ذكر أهل الصفة ودعوة النبي صلى الله عليه و سلم إياهم وهو حديث في ورقة ورواه البخاري في الجامع الصحيح عن خلاد بن يحيى المكي عن عبد الواحد بن أيمن فهذا حديث صحيح وقد تفرد به عبد الواحد بن أيمن عن أبيه وهو من غرائب الصحيح
والنوع الثاني من غرائب الحديث غرائب الشيوخ مثاله ما حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا بيع حاضر لباد هذا حديث غريب لمالك بن أنس عن نافع وهو إمام يجمع حديثه تفرد به عنه الشافعي وهو غمام مقدم ولا نعلم أحدا حدث به عنه غير الربيع بن سليمان وهو ثقة مأمون
والنوع الثالث من غريب الحديث غرائب المتون مثال ذلك ما حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعي بمكة قال حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة

قال حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا أبو عقيل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
هذا حديث غريب الإسناد والمتن فكل ما روي فيه فهو من الخلاف على محمد بن سوقة فأما ابن المنكدر عن جابر فليس يرويه غير محمد \ بن سوقة وعنه أبو عقيل وعنه خلاد بن يحيى فهذه الأنواع التي ذكرتها مثال لألوف من الحديث تجري على مثالها وسننها
ذكر النوع الخامس والعشرين من علوم الحديث هذا النوع فيه معرفة الأفراد من الأحاديث وهو على ثلاثة أنواع
النوع الأول فيه معرفة سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم التي يتفرد بها أهل مدينة واحدة عن الصحابي
ومثال ذلك ما حدثنا أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى قال حدثنا صالح بن محمد بن حبيب الحافظ قال حدثنا علي بن حكيم قال حدثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم بن عتيبة عن حنش قال كان علي رضي الله عنه يضحي بكبشين بكبش عن النبي صلى الله عليه و سلم وبكبش عن نفسه وقال كان أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبدا
تفرد به أهل الكوفة من اول الإسناد إلى آخره لم يشركهم فيه أحد

ثم اورد للبصرة والمدينة ومصر والشام ومكة وخراسان لكل واحدة منها حديثا قد تفرد به أهلها والمثال الذي نقلناه عنه كاف في الوقوف على هذا النوع بالنظر إلى المبتدئ ولذلك اقتصرنا عليه وقد جرينا على هذا النهج في كثير من المواضع
النوع الثاني من الأفراد أحاديث يتفرد بروايتها رجل واحد عن إمام من الأئمة
ومثال ذلك ما حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن شيبان الرملي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث سرية إلى نجد فبلغت سهمانهم اثني عشر بعيرا فنفلنا النبي صلى الله عليه و سلم بعيرا بعيرا
تفرد به سفيان بن عيينة عن الزهري وعنه أحمد بن شيبان الرملي
قال أبو عبد الله هذا النوع من الأفراد يكثر ولا يمكن ذكره لكثرته وهو عند أهل الصنعة متعارف وقد ذكر مثاله
فأما النوع الثالث من الأفراد فإنه أحاديث لأهل المدينة ينفرد بها عنهم أهل مكة مثلا وأحاديث ينفرد بها الخراسانيون عن أهل الحرمين مثلا وهذا نوع يعز وجوده وفهمه
حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك ببغداد قال حدثنا محمد بن عيسى المدائني قال حدثنا محمد بن الفضل بن عطية قال حدثنا أبو إسحاق - ح - وحدثنا أبو العباس المحبوبي قال حدثنا محمد بن الليث قال حدثنا يحيى بن إسحاق الكاجفوني قال حدثنا عبد الكبير بن دينار عن

أبي إسحاق عن البراء قال كان رجل يقال له نعم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أنت عبد الله
قال أبو عبد الله أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي إمام تابعي من أهل الكوفة وليس هذا الحديث عند الكوفيين عنه فإن عبد الكبير دينار مروزي ومحمد بن الفضل بن عطية بخاري وقد تفردا به عنه فهو من أفراد الخراسانيين عن الكوفيين
ذكر النوع السادس والعشرين من علوم الحديث هذا النوع من هذه العلوم في معرفة المدلسين الذين لا يميز من كتب عنهم بين ما سمعوه وما لم يسمعوه وفي التابعين وأتباع التابعين وإلى عصرنا هذا منهم جماعة
قال أبو عبد الله فالتدليس عندنا على ستة أجناس
فمن المدلسين من دلس عن الثقات الذين هم في الثقة مثل المحدث أو فوقه أو دونه إلا أنهم لم يخرجوا من عداد الذين تقبل أخبارهم
الجنس الثاني قوم يدلسون الحديث فيقولون قال فلان فإذا وقع إليهم من ينقر عن سماعاتهم ويلح ويراجعهم ذكروا فيه سماعاتهم
الجنس الثالث قوم دلسوا عن أقوام مجهولين لا يدري من هم وأين هم

قال أبو عبد الله وقد روى جماعة من الأئمة عن قوم من المجهولين منهم سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وبقية بن الوليد قال أحمد بن حنبل إذا حدث بقية عن المشهورين فرواياته مقبولة وإذا حدث عن المجهولين فرواياته غير مقبولة
والجنس الرابع قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يعرفوا
والجنس الخامس قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير وربما فاتهم الشيء عنهم فيدلسونه
قال أبو عبد الله ومن هذه الطبقة جماعة من المحدثين المتقدمين والمتأخرين مخرج حديثهم في الصحيح إلا أن المتبحر في هذا العلم يميز بين ما سمعوه وما دلسوه
والجنس السادس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم وإنما قالوا قال فلان فحمل لك عنهم على السماع وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل
قال أبو عبد الله قد ذكرت في هذه الأجناس الستة أنواع التدليس ليتأمله طالب هذا العلم فيقيس بالأقل على الأكثر ولم استحسن ذكر أسامي من دلس من أئمة المسلمين صيانة للحديث ورواته غير أني أدل على جملة يهتدي إليها الباحث عن الأئمة الذين دلسوا والذين تورعوا عن التدليس وهو أن أهل الحجاز والحرمين ومصر للعوالي من مذهبهم وكذلك أهل خراسان والجبال وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا يعلم أحد من أئمتهم دلس
وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة
فأما مدينة السلام بغداد فقد خرج منها جماعة من أهل الحديث مثل أبي النضر هاشم بن القاسم وأبي نوح عبد الرحمن بن غزوان وأبي كامل مظفر بن مدرك

وأبي محمد يونس بن محمد المؤدب وهم في الطبقة الأولى من أهل بغداد لا يذكر عنهم وعن أقرانهم من الطبقة الأولى التدليس ثم الطبقة الثانية بعدهم الحسن بن موسى الأشيب وسريج بن النعمان الجوهري ومعاوية بن عمرو الأزدي والمعلى بن منصور وأقرانهم من هذه الطبقة لم يذكر عنهم التدليس
ثم الطبقة الثالثة إسحاق بن عيسى بن الطباع ومنصور بن سلمة الخزاعي وسليمان بن داود الهاشمي وأبو نصر عبد الملك بن عبد العزيز التمار لم يذكر عنهم وعن طبقتهم التدليس
ثم الطبقة الرابعة منهم مثل الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى وخلف بن هشام وداود بن عمرو الضبي لم يذكر عنهم وعن طبقتهم التدليس
ثم الطبقة الخامسة مثل إمام الحديث أحمد بن حنبل ومزكي الرواة يحيى بن معين وصاحبي المسند ابن أبي خيثمة زهير بن حرب وعمرو بن محمد الناقد لم يذكر عن واحد منهم التدليس
ثم الطبقة السادسة والسابعة لم يذكر عنهم ذلك إلا لأبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الواسطي فإن أخذ أحد من أهل بغداد التدليس فعن الباغندي وحده
ذكر النوع السابع والعشرين من علوم الحديث هذا النوع منه في معرفة علل الحديث وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله قال سمعت أبا قدامة السرخسي سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول لأن

أعرف علة حديث هو عندي أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثا ليس عندي
وقد اقتصرنا من عبارة الحاكم هنا على هذا القدر وستأتي تتمة عبارته في مبحث أفردناه لهذا النوع
ذكر النوع الثامن والعشرين من علوم الحديث هذا النوع منه في معرفة الشاذ من الروايات وهو غير المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم
فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة
سمعت أبا بكر أحمد بن محمد المتكلم الأشقر يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال لي الشافعي ليس الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس هذا الشاذ من الحديث
ذكر النوع التاسع والعشرين من علوم الحديث هذا النوع من هذه العلوم في معرفة سنن لرسول الله صلى الله عليه و سلم يعارضها مثلها فيحتج أصحاب المذاهب بأحداهما وهما في الصحة والسقم سيان
ومثال ذلك ما حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب قال أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأرسل إلى

أبان بن عثمان ليحضر ذلك وهو أمير الحاج فقال أبان سمعت عثمان بن عفان يقول سمعت رسول الله يقول لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب
قال أبو عبد الله في النهي عن نكاح المحرم باب مخرج أكثره في الصحيح
ويعارضه هذا الخبر حدثني علي بن حمشاذ العدل قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم نكح ميمونة وهو محرم
قال أبو عبد الله وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان وعكرمة مولى ابن عباس ومجاهد بن جبر وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم عن عبد الله بن عباس وكان سعيد بن المسيب ينكر هذا الحديث
وقد كان يزيد بن الأصم يروي عن أبي رافع انه كان يقول كنت والله الرسول بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وميمونة وما تزوجها إلا حلالا
وقد خرجت عليته في كتاب الإكليل في عمرة القضاء بتفصيله وشرحه حتى لقد شفيت
وذكر الحاكم خمسة أمثلة هذا أحدها ثم قال وقد جعلت هذه الأحاديث التي ذكرتها مثالا لأحاديث كثيرة يطول شرحها في الكتاب


ذكر النوع الثلاثين من علوم الحديث هذا النوع من هذا العلم في معرفة الأخبار التي لا معارض لها بوجه من الوجوه
ومثال ذلك ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول
قال أبو عبد الله هذه سنة صحيحة لا معارض لها وذكر أمثلة أخرى لهذا النوع ثم قال وقد جعلت هذه الحاديث مثالا لسنن كثيرة لا معارض لها وقد صنف عثمان بن سعيد الدارمي فيه كتابا كبيرا
ذكر النوع الحادي والثلاثين من علوم الحديث هذا النوع من هذه العلوم في معرفة زيادة ألفاظ فقهية في أحاديث يتفرد فيها بالزيادة راو واحد
وهذا مما يعز وجوده ويقل في أهل الصنعة من يحفظه وقد كان أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري الفقيه ببغداد يذكر بذلك وأبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني بخراسان وبعدهما شيخنا أبو الوليد
ومثال هذا النوع ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن الطوسي بنيسابور وأبو محمد عبد الله بن محمد الخزاعي بمكة قالا حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة قال حدثنا يحيى بن محمد الجاري قال حدثنا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن جده عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم من شرب في إناء ذهب أو فضة أو في إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم
قال أبو عبد الله هذا حديث روي عن أم سلمة وهو مخرج في الصحيح وكذلك روي من غير وجه عن ابن عمر واللفظة أو إناء فيه شيء من ذلك لم نكتبها إلا بهذا الإسناد
ذكر النوع الثاني والثلاثين من علوم الحديث هذا النوع من هذا العلم في معرفة مذاهب المحدثين
قال مالك بن أنس لا يؤخذ العلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه
وقال يحيى بن معين كان محمد بن مناذر الشاعر زنديقا يخرج إلى البطحاء فيصطاد العقارب ثم يرسلها على المسلمين في المسجد الحرام
وقال سفيان الثوري إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه أسمع الحديث من الرجل أتخذه دينا وأسمع الحديث من الرجل أتوقف في حديثه وأسمع الحديث من لارجل لا أعتد بحديثه وأحب معرفة مذهبه
وقال أبو نعيم ذكر الحسن بن صالح عند الثوري فقال ذاك رجل كان يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه و سلم قال أبو عبد الله الحسن بن صالح فقيه ثقة مأمون مخرج في الصحيح وغنما عنى الثوري أنه كان زيدي المذهب
قال أبو عبد الله قد ذكرت ما أدى إليه الاجتهاد في الوقت من مذاهب المتقدمين ولم يحتمل الاختصار أكثر منه وفي القلب أن أذكر بمشيئة الله تعالى في غير هذا الكتاب مذاهب المحدثين بعد هذه الطبقة من شيوخ شيوخي والله الموفق لذلك بمنه ا هـ 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اجزاء المصحف

* الجزء رقم (1) - من الآية : 1- سورة الفاتحة * الجزء رقم (2)- من الآية : 142- سورة البقرة * الجزء رقم (3)- من الآية : 253- سورة البقر...